من القلب إلى القلب

في عام 1863 ميلادية وفي مدينة جيتسبيرج في بنسلفانيا، وصل إدوارد إفيرت مبكرا حتى يجهز جيدا لكلمته التي سيلقيها في احتفال مهيب في مقبرة المقاتلين العامة في عز أوان الحرب الأهلية في أمريكا. كان إفيرت يعد من العباقرة في التاريخ الأمريكي وكان متحدثا بارعا. حضر إفيرت لكلمته جيدا وتدرب عليها أكثر من مرة. وعندما حان دوره قام بإلقاء كلمة مثالية، أفكارها واضحة، لغتها سليمة، ومنطقها متسلسل. بعد أن جلس، قام رجل كان قد وصل لتوه من واشنطن، قام بإعداد خطبته في القطار وهو في الطريق إلى بنسلفانيا، كانت هيئته متواضعة، وهندامه العام عاديا جدا. قام هذا الرجل وقال 266 كلمة بالكمال والتمام استغرقت نحو أربع دقائق. هذه الدقائق الأربع تذكر الآن كأحد أفضل الخطب التي قيلت في التاريخ الأمريكي وتدرس إلى اليوم في المدارس الأمريكية على أنها من الخطب النادرة التي غيرت مسار التاريخ، كانت تلك خطبة جيتسبيرج الشهيرة، وكان الخطيب هو إبراهام لينكون، وكان الباقي للتاريخ.
هذه الخطبة الشهيرة أثبتت أنه حتى تكون الخطبة مؤثرة حقا لا يكفي أن تكون مصوغة بمهارة أو مكتوبة بعناية، بل ولا حتى أن تكون قد ألقيت بطريقة احترافية سليمة (على أن كل هذا مهم جدا)، أهم شيء في الخطبة أو الكلمة أن تكون قد صدرت من قلب صادق ووصلت إلى قلوب الناس وعقولهم، أن تلامس هموم الناس، أن يجدوا فيها ما يعبر عنهم، ما يثيرهم، ما يلبي حاجتهم، وما يشعرون معه أنهم محور اهتمام المتحدث.
يقول علماء التواصل، حتى يكون التواصل فعلا ومؤثرا (والخطبة نوع من التواصل) لا بد أن تتوافر فيها عناصر ثلاثة رئيسة:
أولا: أن يحصل تواصل حقيقي مع قلب المتلقي، وذلك بأن يكون موضوع الخطبة مهما له يجد فيه شيئا يمس حياته اليومية، يناقش مشكلة تؤرقه، يتفاعل مع مشاعره. ثم تأتي الطريقة التي تلقى بها الخطبة والمؤثرات النفسية التي توضع فيها. إذن موضوع يهم الناس وطريقة في الإلقاء جذابة ومثيرة للاهتمام. (وهنا تأتي طريقة الإلقاء والمؤثرات والقصص والأمثلة وغير ذلك من فنون الإلقاء).
ثانيا: أن تخاطب عقل المتلقي، فيكون فيها منطق سليم يثير التفكير، إنها تزيد قناعة المتلقي بأشياء، وتشككه في أشياء، تدعوه للتأمل وتدفعه للمعرفة والتنقيب.
ثالثا: أن تصدر من شخص له مصداقية. ما تاريخ الشخص الذي يتحدث؟ ما واقعه، ما سمعته؟ هل خطبه في واد وأعماله وأفعاله في واد آخر؟ الشخص صاحب المصداقية الحقيقية عند الناس يؤثر فيهم مهما كانت كلماته بسيطة بينما لا تؤثر أفضل الخطب الرنانة والعبارات المنمقة ورفع الصوت وخفضه من شخص ليس عنده مصداقية عند الناس.
وهذه العناصر تنطبق على كل أنواع التواصل وليس على الخطابة فقط.
أقول هذا بعد ما حضرت الحفل السنوي لتسليم جائزة الملك فيصل العالمية إحدى أروع الهدايا التي تهديها بلادنا للعالم وللعلم. ألاحظ في كل عام أن كلمات هؤلاء العلماء المميزين تحتوي دوما على هذه العناصر الثلاثة؛ لذلك أجدها مؤثرة جدا. هم علماء أفنوا حياتهم جلها في خدمة العلم فحازوا المصداقية ودعموا أقوالهم بأفعال تشهد لهم، ثم تحتوي كلكماتهم عادة على مشاعر صادقة في أثر هذه الجائزة في نفسياتهم وتتويج جهودهم تلك وتشجيعهم على المزيد، كما تحتوى على أفكار رائعة عادة في أثر أبحاثهم ومشوارهم العملي على البشرية.
وأعظم من ذلك كله وأرقى، خطب النبي ـــ صلى الله عليه وسلم-، وقد تتبعت المروي منها كلها أو جلها، فوجدت أنها جميعا تنبض بهذه العناصر الثلاثة وتفيض، وما خطبة الوداع في مصداقية ملقيها بعد عمر حافل ثري، وفي توقيتها وعبقريتها وتأثيرها وتلمسها للواقع الديني والاجتماعي والسياسي واستشرافها للمستقبل إلا مثال بديع على الخطبة كأفضل ما يمكن أن تكون. داعيا علماء التواصل إلى دراستها واتخاذها أنموذجا للخطبة المثالية.
نحن إذن أمام نوعين من الخطباء، نوع يخطب ليقول: ها أنا ذا! ونوع يخطب ليقول: هذا أنتم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي