مستقبلنا الاقتصادي رهين الجودة

تمر بلادنا بإرهاصات الانتقال بالاقتصاد من الاعتماد الكلي على النفط، إلى تنويع القاعدة الاقتصادية لتكون عوائد النفط أحد أركان القوة وليست القوة بذاتها. وعلى الرغم من أننا نعيش بداية هذه الإرهاصات، إلا أن هذه البداية من الأهمية بما تجعلها سبب نجاح أو فشل ما نحن مقدمون عليه. وتتعدد المراحل التي سنمر بها خلال رحلتنا الطويلة والشاقة، ولكن الممتعة والمشوقة، للوصول إلى اقتصاد متنوع ومتحرر من الاعتماد على عوائد النفط. ولكل مرحلة من مراحل تحقيق ما نصبو إليه مخاطر تتفاوت بطبيعتها بحسب طبيعة ومتطلبات كل مرحلة. ولعل المخاطر أحد أهم العناصر الثابتة التي لا تتغير أبدا، ربما تتغير طبيعتها ودرجة خطورتها، إلا أنها ستظل قائمة وموجودة في كل وقت. وعند الإمعان في تجارب الأمم الناهضة اقتصاديا وتنمويا نلحظ أنها تغلبت على المخاطر المحدقة بها، وفي جميع مراحل النهوض بالجودة والإتقان.
فتحديد الاستراتيجية التي سننطلق منها يتطلب جودة فائقة في فرز الخيارات المنافسة والمتاحة، وذلك يشمل احتياجات العالم المستقبلي وإمكاناتنا المتوافرة وقدراتنا الكامنة وميزاتنا التنافسية أيضا. وإعداد الخطط التي سننطلق منها لتحقيق الاستراتيجية المتاحة يتطلب جودة فائقة في الإعداد، آخذين في عين الحسبان تجارب الدول التي سبقتنا وجميع العوامل التي من شأنها إعاقة الوصول إلى ما تصبو إليه. أما التنفيذ فيحتاج إلى جودة في إتقان العملية التنفيذية. والجودة ليست مجرد مفهوم يدرس أو قواعد تتبع، بل هي أعمق من ذلك بكثير، ولعل أحسن توصيف للجودة أنها (أسلوب حياة). وعليه لا بد من أن يتشبع بها الجميع وعلى جميع الأصعدة وفي المراكز كافة. وغرس مفهوم الجوده يتطلب تعاون الجميع وفي المراكز كافة، ابتداء بالقطاع التعليمي ومرورا بالإعلام وانتهاء بالقطاعات الخدمية المختلفة. وليس المجال هنا تعداد أشهر الأخطاء التي وقعت في السنين الماضية، سواء نتجت عن عوامل طبيعية أو بشرية، وسببت إزهاقا لأرواح مواطنينا، وأخرت تنفيذ وإنهاء مشاريعنا التنموية، إلا أن الملاحظ أن العامل المشترك الذي ساهم في هذه الأخطاء هو انعدام الجودة.
جودة التصنيع هي ما جعل ميزان الصين التجاري يميل لمصلحة اليابان وألمانيا. فعلى الرغم من ضخامة حجم الآلة الصناعية الصينية، إلا أنها ما زالت تعتمد على جودة منتجات البلدين. وجودة الخدمات الطبية في الغرب هو ما يجعل جميع مرضى العالم يفدون وبالملايين إلى مستشفيات الغرب للعلاج. وجودة القوانين والبيئات الاستثمارية ما يجعل المستثمرين يتوافدون بأموالهم على الدول. وجودة الخدمات السياحية ما يدفع العائلات على التوافد على دول بذاتها للترفيه. حتى القطاع الرياضي، الغلبة فيه لمن يتميز بجودة الأداء والممارسة. الغلبة دائما للجودة وليس للكمية والتعداد. بسبب الجودة فقط يدفع المستهلك فارقا سعريا عاليا في المنتج يصل في كثير من الأحيان إلى أضعاف مضاعفة. وللجودة فقط يرسل الآباء أبناءهم للغرب للتعلم واكتساب الخبرة. حتى في ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة، لا خوف على الشركات التي اتخذت الجودة خيارا، ودون تحديد أسماء، يلاحظ أن شركات السيارات التي تعرضت لضربات موجعة وأفلست ذات جودة رديئة، أما مصنعو السيارات عالية الجودة والكفاءة والأداء فصمدت على الرغم من ارتفاع أسعارها بنسبة كبيرة مقارنة بالشركات التي أفلست.
الجودة مفتاح النجاح للعبور للمستقبل مهما كان الطريق الذي سنسلكه لتنويع القاعدة الاقتصادية لبلادنا. فالمدن الصناعية التي أقيمت في أنحاء المملكة، ومدن الصناعات العسكرية المزمع إقامتها، والبرامج الوطنية المختلفة التي أقرها مجلس الوزراء والتي يستبشر بها الجميع خيرا، وجميع المشاريع التنموية التي تقام على أرض بلادنا وفي المناطق كافة، كل ذلك يحتاج منا جميعا وبلا استثناء، إلى مواطنين ومسؤولين، وفي القطاعات القائمة كافة، أن نجعل من الجودة أسلوب حياة وسلوك فرد ومجتمع. فعقارب الساعة لا تعود، وأمم الأرض في سباق لا راحة فيه للتميز، وإثبات الذات، وصناعة التاريخ، وعلينا أن نجاريهم وننافسهم بل نتفوق عليهم. فدعم القيادة اللامحدود قائم والحمد لله، والإمكانات المادية متوافرة، والعزيمة والإصرار متأصلة في نفوسنا والنية معقودة على النجاح ـــ بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي