هل يحكم المبرمجون العالم؟
جمع مارك أندرسن أول ثروة له بكتابة التعليمات البرمجية التي أصبحت برنامج ''نتسكيب نافايجاتور''، متصفح شبكة الإنترنت. وهو الآن رأسمالي مغامر يبشر بتنامي أهمية البرمجيات في عالم المال والأعمال اليوم. بل إنه يعلن أن البرمجيات بدأت تستولي على العالم ــــ أي أنها ستكون المصدر الرئيس للقيمة المضافة ــــ وأنها تعرض التنبؤ التالي: سيتم تقسيم الاقتصاد العالمي ذات يوم بين أشخاص يخبرون أجهزة الكمبيوتر ماذا تفعل، وأشخاص آخرين تخبرهم أجهزة الكمبيوتر ماذا يفعلون.
ويبدو أن أندرسن يريد إصابة مستمعيه بالصدمة ــــ ليس فقط من أجل التأثير فيهم، بل وأيضاً لحملهم على القيام بأي شيء حيال هذا الأمر. ولكي نمنع العالم من الانقسام بين قِلة من المبرمجين المتفوقين وعديد من متلقي الأوامر، فإنه يريد من متلقي الأوامر المحتملين أن يكفوا عن تلقي دورات الفنون الحرة السهلة في الجامعات، وأن يركزوا بدلاً من هذا على دورات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، حيث الوظائف المجزية. ولكن هل يحل هذا المشكلة التي يطرحها؟
ربما لا يحلها. هناك خاصيتان في عملية إنشاء البرمجيات تسمح لقِلة من المبرمجين الموهوبين أن يتحكموا في السوق وأن يحصدوا كل الأرباح المرتبطة. فأولا، يميل أي برنامج يتمتع بتفوق طفيف إلى الحصول على حصة أكبر كثيراً من السوق المتاحة؛ وثانياً تكون السوق المتاحة عالمية؛ لأن تكلفة صنع نسخة إضافية وإرسالها إلى أي مكان في العالم ضئيلة للغاية. ونتيجة لهذا، فإن هؤلاء الذين يتمتعون بالقدر الكافي من الإبداع والكفاءة لكتابة محرك البحث الأفضل قليلاً قادرون على الاستيلاء على السوق العالمية.
في هذه البيئة التي يستأثر فيها الفائز بكل شيء، فإن عدداً ضئيلاً فقط من هؤلاء الذين حصلوا على دورات في البرمجة يصبح قادراً على حصد أغلب العائد. وإتمام الدورات التحضيرية المناسبة ليس ضماناً للحصول على نصيب في كعكة البرمجيات. فالفوارق في الحظ والموهبة بين هؤلاء المؤهلين بالقدر نفسه هي التي تضمن اتخاذ منحنى أداء شركات البرمجيات هيئة الجرس، حيث يوجد القليل من الشركات المماثلة لـ''جوجل'' و''فيسبوك'' وكثير من الفنيين المتخصصين في الكمبيوتر ممن يحصلون على أجور متوسطة ويعينون الشخص المتوسط المرتبك على التعامل مع البرمجيات الخبيثة.
أو بعبارة أخرى، في عالم حيث يستأثر الفائز بكل شيء، فإن رفع المستوى المتوسط من المهارات أو التعليم لا يجدي في تغيير التوازن المنحرف لتوزيع الدخل. وبالتالي، فهل هناك أي شيء قادر على منع اتساع فجوة التفاوت؟
الإجابة الواضحة هي أجل، ولكن كيفية استجابة المجتمع تعني الفارق بين عالم مزدهر وعالم آخر ممزق بفعل النمو البطيء والسخط.
في نهاية المطاف يفرض المجتمع حقوق الملكية، وإلى الحد الذي يجعلها تبدو غير عادلة فإن المجتمع لديه الحافز لتغييرها. ولكن هل ينظر المجتمع إلى ملياردير البرمجيات وكأنه حصل على ثروته بشكل غير عادل، أم أنه ينظر إلى هذه الثروة باعتبارها مكافأة عادلة عن الذكاء والمهارة؟
كلما كان بوسع الجميع أن يحصلوا على الفرص التعليمية نفسها، كلما مال المجتمع إلى تقبل حصول البعض على مكافآت غير متناسبة. وفي نهاية المطاف فإنهم لديهم الفرصة شخصياً للتحول إلى فائزين. ومن المثير للاهتمام أن البرمجيات قد تعمل ذاتها على تقليل تكاليف توسيع القدرة على الوصول إلى التعليم ـــ والشاهد هنا العدد الهائل من الدورات المفتوحة على شبكة الإنترنت والتي تقدمها شركات مثل كورسيرا.
في واقع الأمر، هناك عديد من الاحتمالات الوسيطة. أحدها أن تتطور المعايير الثقافية على النحو الذي قد يشجع أصحاب المليارات على تقاسم ثرواتهم، حتى ولو أعفوا من الضرائب. على سبيل المثال، كان تعهد العطاء عبارة عن التزام من قِبَل بضعة من أكثر الناس ثراءً على مستوى العالم، مثل وارين بوفيت وبيل جيتس، بتكريس القسم الأعظم من ثرواتهم لأعمال الخير.
وقد تلعب المنافسة الاقتصادية أيضاً دوراً مهما ــــ فإذا كان الإبداع سبباً في خلق ثروات بالمليارات، فإن مزيدا من الأشخاص الأكثر موهبة سيدخلون سوق الإبداع، وبهذا فحتى في عالم يستأثر فيه الفائز بكل شيء فإن الفائز يسيطر على السوق للحظات عابرة قبل أن يسلبه منه شخص آخر. وهذا يعني أن المليارات التي تُصنَع اليوم قد تتحول إلى ملايين فقط في الغد.
والقيم أيضاً تخضع للتعديل والضبط. فعلى الرغم أن الساعات الكوارتز الرقمية قادرة على الحفاظ على الوقت بدقة أكثر من أغلب الساعات السويسرية الميكانيكية المصنوعة يدويا، فقد انخفضت قيمة الساعات الكوارتز الرقمية في حين ارتفعت قيمة الساعات السويسرية إلى عنان السماء. وحتى برغم أن التمييز بينها في المظهر أصبح صعبا إلى حد كبير، فيبدو أن الناس تعتز كثيراً بمعرفة أن شخصاً ما عكف على صناعة ساعاتهم بقدر كبير من المحبة.
وهذا لا يعني أن مخاوفه الأساسية غير مبررة. إن تحسين قدرة الجميع على الوصول إلى الاحتياجات الأساسية مثل التعليم الجيد أمر ضروري لجعل خاصية استئثار الفائز بكل شيء في الأسواق أكثر احتمالا. ولكن المجتمعات قد تضطر أيضاً إلى تغيير نفسها. وإذا حالفنا الحظ فإن التغييرات سوف تحدث تلقائيا.
خاص بـ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.