العم عبد الله .. وضبط الساعة
لا يمكن أن أنساه أبدا، العم عبد الله، سائق الحافلة التي كانت تأخذنا كل يوم من سكن أعضاء هيئة التدريس في الجامعة، حيث كنا نسكن، إلى مدارسنا، من الابتدائية حتى آخر مراحل الثانوي!
تضبط على مقدمه الساعة، لا يتأخر دقيقة ولا يتقدم، يكون أمام كل بيت وكل عمارة في السكن في الوقت المحدد، يبتسم في وجه كل طفل يركب، لا يتحرك حتى يتأكد أن الطالب جلس في محله ووضع شنطته التي ناء بحملها ظهره. يعطي دقيقة أو دقيقتين لمن يتأخر، لكنه لا ينتظر أحدا أكثر من ذلك لأنه لا يريد أن يتأخر عن الطالب التالي. كان أبا لنا جميعا. في تلك الحافلة، ذكريات وأي ذكريات، قطعة جميلة من الماضي الجميل، ربما تحكى يوما ما. كان العم عبد الله ( بعد والدي ووالدتي) هو من أوائل نماذج المهنية الحقة التي تأثرت بها في حياتي. كان رجلا بسيطا، لا يقرأ ولا يكتب، لكنه كان في القمة من المهنية في اهتمامه بعمله وحرصه عليه وإتقانه في أدائه.
من ذلك الحين، وأنا مغرم بتتبع آثار هذه المهنية وبصماتها في كل مكان. رأيتها كثيرا في ممرضة تتفانى في خدمة مريض مقعد بإتقان وتميز، رأيتها في معلم أدرك شرف المهنة وعظم المسؤولية، فصاغ عقول الطلاب ونفوسهم كأنه يغزل ثوبا جميلا، رأيتها في عامل يعمل بحرفية ومتعة وإتقان كأنه يعزف لحنا مطربا، رأيتها في رياضي يدرك قيمة الرياضة الحضارية ويعطيها كل شيء، رأيتها في مخرج يصوغ لنا فيلما سينمائيا باحترافية وتأنق يدهش الملايين ويغير تفكيرهم.
هذا الكون الذي حولنا، هذا الجسم الذي تلبسه روحنا، بل هذه الروح التي تسكن أجسامنا، خلقت جميعا باحترافية وإتقان غاية في الدقة والإعجاز، ''صنع الله الذي أتقن كل شيء''.
من المهنية أن تدرك معنى عملك وقيمته وهدفه ورسالته. من المهنية أن تعطي عملك ومهمتك كل تركيزك وعقلك وقلبك وطاقتك. من المهنية أن تعمل وفق المعايير المعتمدة وضوابط أهل التخصص والمهنة، من المهنية أن تتقن العمل وتقوم به بأفضل شكل يمكن أن تقوم به. والمهنية قبل هذا وذاك، أن تراقب الله في العمل فتقوم به بما يرضيه قبل أي معيار وأي مراقب.
لا تقبل بها بديلا، مارسها في كل ما تقوم به، ليس فقط في وظيفتك العملية، لكن في كل شيء، أنت في المنزل، أبا أو أما أو ابنا، تحتاج إلى أن تكون مهنيا، الأمومة والبنوة مثلا أعظم المهمات وتحتاج إلى مهنية عالية، أنت في قيادتك لسيارتك في حاجة إلى أن تكون مهنيا. بل أنت في حاجة ماسة إلى أن تكون مهنيا مع نفسك وجسمك، بأن تأكل الغذاء الصحيح وتمارس الرياضة وتعتني بجسمك. وبعد أن تحاول أقصى جهدك في ممارستها في حياتك بكل تفاصيلها، راقبها حولك، فتش عنها، ولا تنزعج من غيابها شبه التام فيمن حولك، انشرها، بشر بها، شجعها إذا رأيت بوادرها، كافئها إذا كانت لك القدرة على ذلك.
قبل أسابيع وعلى إحدى طائرات ''الخطوط السعودية'' فوجئت على ارتفاع 35 ألف قدم بجرعة عالية من المهنية لم أعتدها من ناقلنا الوطني، كان أحد المضيفين مثالا للمهنية العالية في التعامل والإتقان والاحترافية، لا تدع فرصة كهذه تمر دون شكر وتقدير وتشجيع، وستشعر أن مهنيتك أنت تزداد. وفي المقابل، مهما مورست أمامك وضدك عدم المهنية (وما أكثر ذلك) حاول أن تحافظ على مهنيتك أنت!
ما أجمل أن أختم بكلمات مارتن لوثر كنج: ''لو دعي رجل إلى تنظيف الشارع فعليه أن ينظفه مثلما يرسم مايكل أنجلو، مثلما يعزف بيتهوفن أو يكتب شكسبير، لا بد أن ينظف الشارع بإتقان حتى يتوقف كل شيء ليقول: في هذا المكان وجد منظف شوارع عمل عمله بإتقان وتميز''!
كيف سيكون حالنا لو أدى كل منا عمله ومهامه في الحياة بهذه المهنية وهذا التميز؟