العواقب الوخيمة للعدالة

هل يعقل أن تؤدي العدالة إلى شرور أعظم من الشرور المتولدة من الجريمة ذاتها، وهل يعقل أن تؤدي سياسة التكتم على المصيبة إلى فوائد تفوق في مجملها إيجابيات تحقيق العدالة، وهل يعقل أن يقبل تعهد شخص سبق وخان الأمانة المناطة به، وثبت تجرده من إنسانيته وضميره، أليس الصمت عن المجرمين مدعاة لتشجيع صغار النفوس على ممارسة الجرائم، وهل من المقبول تلمس الأعذار للكبار حين يرتكبون الجرائم، بينما الصغار تطبق عليهم العقوبات المغلظة بلا رأفة ورحمة، وهل تصاب العدالة بالعمى حين يرتكب الكبار المصائب التي يصعب على كثير من العقول استيعابها ومن ثم تصديقها لمكرها وخبثها المتناهي، وهل تبرر الغايات السياسية الطرق المنحلة والوضيعة المؤدية للوصول لها، وهل بالإمكان أن تبقى الثقة قائمة بنظام تشريعي وقضائي يتقاسم ''كعكه غنائم اللئام'' المتولدة من إرهاب الشعوب وإخضاعها للإدمان على المخدرات وغيرها من آفات العصر علنا وعلى الملأ ودون أي حياء؟ ألا ليت شعري هل يرى الناسُ ما أرى من الأمْرِ أوْ يَبدو لهمْ ما بَدال ِيَا.
وليت سلطات التحقيق في الولايات المتحدة سكتت ولم تفصح عن المبرر الذي يحول دون توجيه اتهام جنائي للمصرف البريطاني ''إتش إس بي سي''. فالتذرع بالخوف من اهتزاز النظام المالي والمصرفي العالمي إذا تم توجيه اتهام جنائي للبنك يوحي للمتلقي أن ضعف النظام المالي هو المشكلة التي أدت إلى وقوع المصرف في المنزلق المنحط، كما ويوحي إلى أن بنكا واحدا يمكن أن يشكل تهديدا على استقرار هذا النظام. ولكن عند الإمعان في تفاصيل القضية نجد أن المشكلة ليست في ضعف النظام المالي والمصرفي العالمي أو حتى في ''إتش إس بي سي'' كمصرف ونظام، بل على العكس، النظام المالي العالمي بل وحتى النظام المعمول به في مصرف إتش إس بي سي من القوة ما تمكنه من تسليط الضوء ومن ثم منع أي عملية مشبوهة وقذرة. المشكلة كل المشكلة في القائمين على هذا النظام والذين سخروا المصرف للمجرمين وجعلوا منه جزءا لا يتجزأ من البنية التحتية لتجار المخدرات والجماعات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم ليغسلوا أموالهم القذرة. فحجم مصرف إتش إس بي سي واستحواذه على نسبة كبيرة من العمليات المالية في العالم يجب ألا يكون سببا في التساهل مع المسؤولين الكبار الذين خانوا أماناتهم المصرفية، ومع الأسف الشديد، كثير من هؤلاء ما زالوا في مراكزهم بل وأحدهم أصبح بمرتبة وزير في دولته.
ولكن يبدو لي شخصيا، أن محاكمة هؤلاء المسؤولين الكبار ستؤدي إلى طلب شهود ومن ثم الاستماع إلى أقوالهم ومن ثم عرض المستندات ومن ثم تبادل الاتهامات وغير ذلك، مما سيؤدي إلى توسيع نطاق التحقيقات لتفضح ما لم يتم نشره في وسائل الإعلام، ومن ثم تكبر القضية وتتوسع إلى ما لن يحمد المحققون أنفسهم عقباه. والتفاصيل تشير وبشكل واضح إلى أن النظام المعمول به في ''إتش إس بي سي'' كان يشير وينبه للعمليات المشبوهة، كما وتشير المراسلات بين الموظفين إلى علمهم التام بالعمليات. بل إن بعضهم توقع أن يتسبب تجاهل كبار المسؤولين في المصرف لهذه التحذيرات في أزمة حقيقية مع الدول والمشرعين، وفعلا هذا ما حدث.
الحقيقة أن أي نظام في العالم مهما بلغت درجه تفوقه التقني والتنظيمي، سواء كان نظاما مصرفيا أو غيره، إذا تولاه من لا أخلاق ولا ضمير له، تحول إلى خراب ودمار، أقل ما يمكن وصفه (بالشامل). وفي المقابل أي نظام مهما كان بدائيا إذا تولاه ذوو الأمانة والأخلاق والمبادئ السامية، سيحقق غاياته المنشودة وبأقل قدر من الخسائر. سر نجاح الأنظمة أخلاق القائمين عليها، ومثلهم التي يؤمنون بها ويطبقونها. وسر فشل الأنظمة انحطاط أخلاق القائمين عليها. والحقيقة التي لا مناص منها أن هيبة الأنظمة نابعة من العقوبات التي ستتولد من جراء كسرها ومخالفتها. والتاريخ يثبت أن التساهل مع المجرمين يزيد من جرأتهم وعددهم. وستثبت الأيام أن المستقبل المصرفي في العالم لن يكون سوى نسخة من الماضي، ومع الأسف الشديد. والمهم هنا، هل وعت دول العالم (الثالث) الدرس، وهل اتخذت الاحترازات الرقابية والقانونية تجاه المصارف الغربية وغيرها، أم أن دول العالم (الثالث) أدمنت لعب دور الضحية، واستكانت للذل والمهانة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي