الحاجز اللغوي واقع لا يمكن تخطيه

كتبت في الأسبوع الماضي عن اقتصاد المعرفة وتمثلت بكلمة benchmarking من اللغة الإنجليزية، التي ربما كتبتها وقرأتها لعشرات المرات وبشكل صحيح إلا أنني كتبتها خطأ في المقال، وهذا يدل على أن حاجز اللغة أمر واقع وسبب رئيس في تخلفنا وتدل ترجمتنا لكلمة Hyper Market بـ ''هايبر بنده'' على أمثلة كثيرة ترجمناها خطأ وظلت كذلك دون تغيير فلو أن شخصا لسانه الأصلي اللغة الإنجليزية ولا يدري أنها ترمز إلى سلسلة أسواق كبيرة فإنه سيعتقد أنها حديقة حيوان لحيوان الباندا، ولكنه يتصف بفرط الحركة، لذا فإنه يخالف طبيعة هذا الحيوان الكسلان وهذه الحديقة المتخصصة تستحق الزيارة.
وفي السياق نفسه، ترجمنا Super Market إلى السوق المركزي مع أنها تعني السوق الكبير جدا أو المتميز جدا ومازلنا نستخدمها بترجمتها، التي تعني باللغة الإنجليزية Central Market، ومع شغفنا بألذ الأطعمة والمآكل من المفترض ألا نخطئ في هكذا أمور والجميع يعلم أننا فرضنا تعليم الطب البشري باللغة الإنجليزية فما رأيكم بالعدد الهائل من الأخطاء في المفاهيم لدى الطلبة الذين يتعلمون اللغة قهرا وقسرا والعدد الكبير من الذين لديهم الفراسة الطبية، الذين ابتعدوا عن هذا المجال بسبب حاجز اللغة، وأحسب أن تخلف الخدمات الصحية لدينا بسبب هذا الحاجز الذي ثبت مع الزمن استحالة تخطيه وهذا الأمر يندرج على أفرع العلم كافة.
ولن نذهب إلى دول مثل اليابان أو الصين أو كوريا وإن وجدت لديهم بعض الجامعات تستخدم اللغة الإنجليزية في التعليم وربما لتكون نافذة لربط العلوم من وإلى اللغة الوطنية، بل دعونا نسأل عن دول لغتها منحدرة من اللاتينية، فلن نجد الألمان يعلمون أبناءهم باللغة الإنجليزية ولن نجد الفرنسيين كذلك أو الإسبانيين فما بالك بالإيطاليين أو الروس.
ونقول لمن يعتقد أن تعلم العلم بما يسمى مجازا باللغات الحية مثل الإنجليزية والفرنسية انظروا إلى مثال قريب لدينا ومن أصولنا ولكن لسانهم تحول بشكل رئيس إلى اللغة الفرنسية فهذه تونس الخضراء وجزائر الصحراء يتقن كل مواطنيها إلا ما ندر اللغة الفرنسية، التي تعتبر بمنزلة لغة الأم واللغة العربية تأتي في المرتبة الثانية أضف إلى ذلك العدد الكبير من المهاجرين من هاتين الدولتين، الذين يعملون في الدول الأوروبية التي تتكلم الفرنسية، ولكننا لا نرى تميزا يذكر بين هذه الدول والدول العربية الأخرى التي لا تتكلم لغات حية ولو ذهبنا جنوبا لدول إفريقية اعتمدت الفرنسية كلغة وطنية لكانت معادلتنا في ضرورة تعلم العلوم باللغة الإنجليزية أوصلت هذه الدول إلى استكشاف القمر.
وفي أحد المؤتمرات عن التعليم، الذي عقد في جامعة الملك سعود كان أحد المحاضرين من اليابان يلقي محاضرته بلغة إنجليزية مكسرة وكان موضوع المحاضرة يدور حول ضرورة تعليم علوم الروبوتات والذكاء الصناعي في مراحل متقدمة من التعليم العام، حيث يبدأ ذلك في اليابان في المرحلة التي تماثل المرحلة المتوسطة لدينا وأورد مقتطفات من المناهج وطرق التعليم وبعد انتهاء المحاضرة وأثناء فترة الأسئلة سأله أحد الحاضرين هذا السؤال ''بما أنكم تعلمون علوم الربوتات في مرحلة المتوسطة فمتى تعلمون أبناءكم اللغة الإنجليزية'' وكان الجواب صاعقا ومختصرا، حيث أجاب ''لا نعلم.. لا نعلم.. لا نعلم الإنجليزية في أية مرحلة من مراحل التعليم لدينا بل إن الذكاء الصناعي للمترجم الآلي من اللغة الإنجليزية إلى اليابانية يمكن جدتي من قراءة ''نيويورك تايمز'' حال صدورها''.
ولن أتحسر على جداتنا بعدم تمتعهن بميزات الجدة اليابانية بل سأتحسر على أحفادنا مع هذا التوجه غير السليم، بل إنه توجه نحو الهاوية، حيث قد لا تمكننا مواردنا أو أوضاعنا من تعليم أبنائنا اللغات الحية في المستقبل، وتكون الفجوة فيما بين ما نجده باللغة العربية من علوم وما ستصل إليه من تطور في المستقبل كبيرة، ونتحول إلى أناس أميين، حيث وإن أجدنا مهارة القراءة فلن يكون بحوزتنا شيء نقرأه ونتعلمه بلغتنا.
وعودا على ذي بدء، فإن الميزة التنافسية لدينا كبيرة لتكوين بيئة وكيان اجتماعي للترجمة، وذلك بوجود التميز بإتقان اللغات في شمال إفريقا والعدد الهائل من المبتعثين إلى دول تعلموا بها باللغة الإنجليزية، ولن نطلب كثيرا في حق الوطن من حملة الدكتوراه والماجستير ليترجم بعضهم كتابا واحدا في تخصصه ولا ننسى المهاجرين العرب الذين يتقنون اللغتين في أصقاع العالم فمن هاجر إلى روسيا وترجم كتابا علميا من الروسية إلى العربية ــــ نزنه بالذهب ــــ وذلك بدعم تسويقه وترويجه واعتماد كتابه مرجعا علميا في الجامعات والأمر موصول إلى من هاجر إلى دول تتكلم بلغات أخرى.
وفي مرحلة قد تكون طويلة بالنسبة لعمر الفرد ولكنها قصيرة في عمر الدول سنستطيع وبمشيئة الله عكس الاتجاه وتنشأ عملية تبادل معرفي بيننا وبين جميع اللغات العالمية ومع كثرة المنادين بالتوجه نحو إحلال اللغة الإنجليزية محل لغة القرآن في تعليم العلوم، أقول لهم أنا معكم إذا كان هذا التوجه سيوردنا ماء، أما اذا اكتشفنا عمليا أن ما نراه مجرد سراب فعلينا ألا نكابر، حيث إن الاعتراف بالحق فضيلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي