إكسبو منصة استثمار 2040

في اللحظة التي تختار فيها الأمم توقيتًا رمزيًا لتقديم أعظم ما لديها، اختارت السعودية عام 2030 ليكون نقطة تحول تاريخية، ليس فقط لختام برامج رؤيتها الطموحة، بل كبوابة عبور نحو مستقبلٍ عالميٍّ جديد، تتصدر فيه موقعًا متقدمًا بين أكبر الاقتصادات. يتزامن تنظيم "معرض إكسبو الرياض 2030" مع بداية صفحة جديدة تتجه نحو 2040، في رحلة تحول وصفها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء بأن رؤية 2030 ستضع السعودية في موقع متقدم في العالم، وأن 2040 ستكون مرحلة منافسة عالمية.
لكن إكسبو ليس فعالية عابرة أو كرنفالاً دولياً مؤقتاً، بل هو التتويج لما زرعته السعودية طوال عِقْدٍ كامل من التحولات التنموية المتسارعة عبر رؤية 2030، حيث تمضي بخطىً واثقةٍ نحو التأسيس لمنصة استثمارٍ عالمية مدفوعة بمشاريعَ جبارةٍ وعملاقة "Giga Projects" وبرامجَ وطنيةٍ أثبتت قدرتها الفعلية على تحقيق النتائج، سواء في جذب الاستثمارات، تعزيز الشراكات الدولية، تنويع الاقتصاد، أو بناء بنية تحتية متقدمة. ومع حلول 2030، تكون السعودية قد دخلت مرحلة الجاهزية ليس فقط بما تحقق، بل بما يُمْكِنها تقديمه للعالم من قطاعاتٍ جاهزةٍ لتغيير قواعد اللعبة الاقتصادية.
فمن المتوقع أن يستقطب المعرض أكثر من 40 مليون زائر فعلي، ويحقق أكثر من مليار زيارة عبر الواقع الافتراضي؛ ما يجعله أكبرَ منصةِ ترويجٍ اقتصاديٍّ في تاريخ السعودية. غيرَ أن السؤال الأهم ليس عدد الزوار، بل كيف يمكن ترجمة هذا الحضور إلى استثمارات دائمةٍ تُؤسس لنموٍ طويلِ الأمدِ. فالقيمةُ الحقيقيةُ لأيِّ إكسبو تكمن في "ما بعد الحدث"، وهي اللحظة التي تُوضع فيها اللبنات الأولى لاقتصاد المستقبل من خلال مرحلة ما يعرف في أدبيات الاقتصاد بمعمار الإرث(Legacy Phase).
تُظهر التجارب العالمية أنَّ الدولَ التي استضافت إكسبو نجحت عندما صَمّمت مرحلةَ ما بعد الحدث كبيئةٍ استثماريةٍ تحتضنُ الفرصَ الجديدةَ، كما فَعَلت مونتريال عام 1967 التي تحول معرضها إلى نقطة انطلاقةٍ حضريةٍ جعلتها مركزًا اقتصادياً بارزاً، وأوساكا عام 1970 التي أسست مرافقَ تعليميةً وسياحيةً أصبحت مصادرَ دخلٍ دائمةٍ، وشنغهاي عام 2010 التي حققَّت قفزةً في التوظيف بنسبة 15% خلال 5 سنوات تاليةً، وميلانو 2015 التي زادَ ناتجها المحلي بنسبة 8% خلال 3 سنوات، وأخيرًا دبي التي ضاعفت الاستثمارات الأجنبية بنسبة 35% خلال عامين بعد انتهاء إكسبو 2020.
السعودية أمام فرصة مماثلة، لكنها أكثر عمقًا وطموحًا. فالتحولات العالمية من الآن وحتى 2040 ستدور حول الذكاء الاصطناعي، الطاقة النظيفة، البنية التحتية الرقمية، الصحة الذكية، والتقنية الحيوية. وهذه القطاعات لا تكفيها البنية الأساسية التقليدية، بل تحتاج إلى نظامٍ بيئيٍّ متكاملٍ مرنٍ وعاليَ الاستجابةِ. وهنا، تبرز المناطق الاقتصادية الخاصة كأداةٍ إستراتيجيةٍ محوريةٍ، ليست فقط لضمانِ استدامةِ الزخم الذي سيخلقه إكسبو، بل لتقديم بيئةٍ مصممةٍ خصيصًا لاحتضان الاستثمارات النوعية التي تستهدفها السعودية.
هذه المناطق ليست مجرد "مواقعَ جغرافيةٍ معزولةٍ ذات حوافز"، بل أنظمة تشريعية مرنة تسمح بإعادة هندسة الإجراءات، وتخصيص الأنظمةِ، وبناء حزم تمويل وتنظيم وتجريب مخصصة لكل قطاع أو نمط إنتاج. وهذا ما لا توفره عادةً الأنظمةُ الوطنيةُ الموحدة، ولا تحققه المناطق الحرة التقليدية.
فحين تُصمم منطقة إرث أكسبو وفق أعلى المعايير الدولية، فإنها تتحولُ إلى مراكز جذبٍ للمواهب والشركات العالمية عبر ملكية أجنبيةٍ كاملةٍ، وإعفاءاتٍ ضريبيةٍ وجمركيةٍ مغريةً، وأنظمةٍ قضائيةً مرنةً، كما تقدم منصات تمويل مختلط (Blended Finance) تستقطب رأس المال الخاص والمؤسسي، وتعيد تدويره في الاقتصاد المحلي بطريقة مستدامة، فليس المطلوب فقط اجتذاب الاستثمارات، بل توفير نماذج أعمال قادرة على التصدير والتكرار والتوسع الإقليمي.
وفي هذا السياق، لا ينبغي النظر إلى المناطق الاقتصادية الخاصة كمشاريعَ معزولةٍ أو منافسةٍ للاقتصاد الأساسي، بل كأذرعٍ إستراتيجيةٍ تُسرّع وتدعم المسار الاقتصادي الوطني. فهذه المناطق تُصمم لتكونَ رافعةَ نموٍ تكامليةً، تستهدف قطاعاتٍ إستراتيجيةً جديدةً لا تزال قيدَ التشكّل عالميًا، وتوفر بيئةً تنظيميةً وتشريعيةً مرنةً تستجيبُ لحاجاتِ المستثمرينَ الدوليينَ، وتسهم في نقل المعرفة، وصنع وظائفَ نوعيةٍ، وتعزيزِ سلاسل القيمة المضافة داخل السعودية.
لذلك فإن إكسبو ليس مجرد نافذةٍ، بل هو بوابةٌ تفتح على نظام بيئي عالمي بإطار سعودي، يقدم نموذجًا استثماريًا متقدماً ينتمي للمستقبل.
وهنا تتسق فلسفة "إرث إكسبو" مع جوهر رؤية السعودية 2030 بأن يكون القطاع الخاص هو المحرك الرئيسي للنمو. فكلُ فرصةٍ استثمارية تُطلق في المناطق الاقتصادية ستنعكس بنمو في سلاسل الإمداد، فرص الوظائف، انتقال المعرفة، والابتكار المحلي، وبالتالي لا تقلل هذه المناطق من شأن الاقتصاد الأساسي، بل تدعمه بتوسيع قاعدته وتنويع مصادر نموه، كما توفر ممرًا مزدوجًا لتعظيم الاستفادة من الزخم الدولي الذي سيخلقه إكسبو.
إكسبو الرياض ليس فقط في توقيتٍ مفصليٍّ من تاريخ البلاد، بل يصادف لحظة نضج مؤسساتيٍّ وتشريعيٍ واقتصاديٍ استثنائيٍ، حيث باتت السعودية جاهزةً لعرض حقيبة قطاعاتها الواعدة أمام العالم في الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، السياحة الفاخرة، البنية الرقمية، واللوجستيات المتقدمة، والتطوير العقاري. ومع اكتمال مشاريع مثل نيوم، ذا لاين، البحر الأحمر، القدية، وروشن، فإن السعودية تدخل الخريطة الاستثمارية العالمية ليس كمجردِ لاعبٍ، بل كمنصةٍ كبيرةٍ ذاتِ وزنٍّ تنافسيٍّ حقيقيٍّ.
إكسبو، بهذا المعنى، هو نقطةُ انطلاقٍ لا نقطةُ نهاية. فغلق بوابات المعرض ينبغي أن يفتح بوابات الاستثمار الدائم، عبر نظام بيئيٍّ ذكيٍّ يقوده القطاع الخاص، وتدعمه الدولة ببنية تنظيمية مرنة، ومناطق اقتصادية تُصمم خصيصًا لتكون مسرّعة للنمو وليس نشازًا منه. ومن هنا، فإن أهم ما ستتركه السعودية بعد الأشهر الستة من إكسبو، هو البنية المستدامة التي سيبني عليها العالم استثماراته القادمة في السعودية.
ولهذا، فإن إكسبو 2030 الرياض ليس مجرد حدثٍ عالميٍ عابر، بل هو منصّة تحوّلٍ استثماري تمهّد لانطلاقة 2040 كبدايةٍ تنافسيةٍ جديدةٍ للسعودية على المسرح الاقتصادي الدولي. إنه النقطة التي يُبدأ منها، لا التي يُختتم عندها الملف؛ والعنوان الذي تُفتَح عنده آفاق الفرص، لا تُغلق. فإكسبو هو رمز المنافسة، ومنصّته الحقيقية تمثل الفصلَ الأولَ في سرديّةٍ اقتصاديّةٍ سعوديّةٍ واعدة.

مستشار قانوني

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي