الإنفاق .. و«ترييع» الاقتصاد

اقترنت كلمة الريع بالدخل البسيط الناجم عن الموارد الطبيعية، وقد كانت في البدايات نباتاً أو حيواناً أو جماداً، لكنها مع اكتشاف الزراعة اكتسبت ثقلاً أكبر، ثم مع فجر الصناعة لم يعد للريع ذلك المعنى الأولي القائم على ما هو موجود أو المتوافق مع مناخات المواسم، كما في الزراعة، وإنما أحال التصنيع، الريع إلى نسق خاضع لعلم ومعرفة وزمن وآلية أداء تتراكم مخرجاته وتتنوع وترتقي، وبالتالي تضاءل الاعتماد على الريع بمفهومه الأولي إلى صناعته ليتحوّل إلى اقتصاد مركّب، وصار هو بذاته عملية إنتاج منمية للدخل.
وحديث الاقتصاد الريعي حديث ممتد وبسيط في آن؛ لأن قاعدته الموارد الطبيعية التي تختلف من بلد إلى آخر، غير أن ظهور النفط والغاز وقبلهما المعادن النادرة ذات الميزة النسبية، أبقى للاقتصاد الريعي حضوره الطاغي في تحقيق الدخول العالية، القادرة على إكساب بلدانها عناصر المدنية ثم التنمية .. إلا أن هذه الموارد العظمى الهائلة العوائد، بقدر ما منحت فرص الحصول على الثروة بقليل من الجهد والزمن وبالأقل من القوى البشرية أشاعت ميولاً استرخائية حدّت من الاندفاع والحماس، إلى ضرورة خلق الثروة بالعمل وتحدّي الظروف غير المواتية، لإيجاد مصادر هذه الثروة عبر مغالبة تلك الظروف، باستحداث وتفعيل وسائل إنتاجها بالعلم والمعرفة بالدرجة الأولى، ثم بتسخير العلم والمعرفة عملياً لاستنبات حقول إنتاج الثروة بالتخطيط الفكري والعملي والتطبيق الفعلي.
بلادنا وهبها الخالق - سبحانه - موارد طبيعية جمة، كان النفط أشدها إبهاراً وأثمنها، وبات منذ قرن السلعة الاستراتيجية الأعظم في العالم، المسؤولة عن تشغيل كل ما ينتج وما يسير وما يطير وما يتحرّك وما يضيء فوق الأرض .. وقد ظلت موارد المملكة منه هي زخم الإنفاق الذي قفز بالمملكة من صحراء وريف إلى دولة زاخرة بالتنمية لها قوتها الاقتصادية العظمى التي جعلتها عضواً مميزاً في دول مجموعة العشرين.
وكان من الضروري في بدايات التحديث، أن تعتمد المملكة على موارد النفط لخلق بنيات أساسية ومرافق للعلم والصحة وغيرها من الخدمات، ومع المُضي في الخضوع لمنهجية التخطيط والرغبة في تمويل التنمية من غير الموارد النفطية بالتقليل من الاعتماد عليها، ظل هذا الهدف هاجساً أكثر منه برنامجاً له محتواه والتزاماته وجدوله الزمني، فقد كانت الرؤية مشوشة أو غامضة حيال كيفية تحقيقه، فالرؤية لم تتم بلورتها وتصميمها بلغة اقتصادية وفق خريطة طريق خاصّة بها، مثلما كان دور الإرادة يتأجّل بفعل تدافع زخم الإيراد النفطي، وبفعل أن السياسة الاقتصادية علقت بالسياسة المالية بالإنفاق على إنشاء المرافق والخدمات والاستهلاك، على حساب الجانب الاستثماري ذي القدرة على توليد الثروة وخلق فرص وظيفية، تؤدي هي بدورها إلى كبح تصاعد إنتاج النفط وتدرج خفضه بتنامي بدائله من المنشآت الصناعية المنتجة للسلع، مالكة القدرة على الرواج في السوقين المحلية والإقليمية، بل العالمية والرسوخ في مضمار المنافسة .. وهو ما لم يحدث سوى في نزر يسير من الصناعات البتروكيماوية أو صناعة التكرير ومواد البناء وما شابه ذلك، مما لا يشكل ثقلاً من حيث العوائد القادرة على زحزحة درجة الاعتماد على النفط، خصوصاً مع تنامي الزيادة السكانية والمساحة الشاسعة للمملكة الذي صعّد الطلب على خدمات التنمية، فتعاظم الاعتماد على النفط لتشغيل هذه الماكينة التنموية الكبرى.
هذا يعني أننا بغياب الرؤية وتأجيل الإرادة وانحباس السياسة الاقتصادية بالسياسة المالية، وقعنا في حالة "ترييع" للاقتصاد بدلاً من الخلاص من الاقتصاد الريعي .. بمعنى أن موردنا الاقتصادي الناجم عن حالة طبيعية بقليل من الجهد والزمن، وبالأقل من البشر، هو ما يتحكم في مسارات التنمية تمويلاً وعملاً وتشغيلاً، وأن الاقتصاد المستنبت الذي أردنا أن يثبت حضوره ليكون بديلاً للنفط بقي مجرد طرحٍ نظري في أغلبه، وأننا بدلا من أن نستثمر موارد النفط لخلق إنتاج صناعي وتقني ثري العطاء كثروة مستدامة ومنجم فرص عمل، استمرأنا الاعتماد عليه في مسار عكسي تقريباً يعمل على "ترييع" الاقتصاد، وتعريض حتى المنشآت الاقتصادية القليلة التي نجحنا في إنشائها، لاحتمال الوقوع رهينة ريع النفط فيما لو قلت قيمته الاقتصادية، ومزاحمة تلك المنشآت بمنافس أكثر جذباً بفعل حدوث اختراق تقني يحجب عنا أو بديل في الطاقة أو ظرف طارئ .. ولن يكون السبيل لعدم "ترييع" الاقتصاد إلا في المبادرة إلى خلق قاعدة عريضة نوعية من الصناعات والتقنيات تبدأ مع تحويل الرؤية بالإرادة إلى واقع حي .. قد تكون مادته النظرية ما هو موجود في "الاستراتيجية الوطنية للصناعة" و"السياسة الوطنية للعلوم والتقنية"، وما هو كذلك موجود في أذهان المخططين والمستثمرين على حد سواء!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي