أنظمة التمويل العقاري .. زيت على نار الأسعار

كيف حدثت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة؟ ببساطة ارتفعت أسعار العقارات بطريقة لا تبررها حالة العقار ولا مكانه. لكن لماذا ارتفعت الأسعار بهذه الطريقة؟ ذلك أن تسعير العقارات كان يتم بسعر مرجعي، وهو ما خلق سعرا يسمى ''السعر العادل''، فلا هو سعر سوق يعكس حقيقة العقار وحالته الفعلية، ولا هو سعر بيع فعلي للعقار نفسه، بل حالة هلامية تحدد من خلال آخر عمليات بيع وشراء لعقارات مماثلة. لفهم المصيبة الأمريكية علينا أن نعرف كيف تفاعلت عملية تسنيد الرهون وتحديد السعر العادل للعقارات. النظام كان يتيح لمؤسسات التمويل العقارية أن تصدر سندات وتبيعها في السوق، هذه السندات بقيمة العقارات المرهونة، أو بمعنى أدق بقيمة المتحصلات الناتجة عن التمويل للعقارات المرهونة. بالطبع كان يهم شركات التمويل أن ترتفع قيمة العقارات حتى تتمكن من رفع قيمة التمويل، وبالتالي زيادة متحصلات بيع السندات، فالأمر أصبح مترابطا بين قيمة العقار وقيمة التمويل والسندات التي ستصدرها المؤسسات. وهكذا لم تمانع شركات التمويل من ارتفاع الأسعار، ولم تعترض عليها حتى لو كانت حالة العقار أو مكانه لا تؤهلانه لمثل هذا السعر، وهو ما يحصل الآن فعلا في السوق السعودية، وتسبب في ارتفاع الأسعار بشكل كبير مع شح المعروض.
حاولت أنظمة التمويل العقارية الجديدة أن تخلق آلية تسيطر على الأسعار، فأطلقت ما يسمى أيضا ''السعر المرجعي''. وعرفته اللائحة التنفيذية المقترحة ''بأنه مؤشر عام لسعر العقار في منطقة محددة أو حي معين بمراعاة العوامل الرئيسة المؤثرة عادة في تحديد سعر العقار، ويشمل ذلك البيانات الصادرة عن سجلات مكاتب العدل والسجل العيني للعقار، أو سجلات حجج الاستحكام في المحاكم، أو سجلات حفظ بيانات عقود الإيجار الموثقة لدى وسطاء العقار وفقا للائحة تنظيم المكاتب العقارية''. كما أشارت اللائحة إلى أن تقدم خدمة السعر المرجعي شركة خاصة لذلك توافق عليها مؤسسة النقد وتخضع لتعليمات محافظ المؤسسة. ثم أضافت المادة رقم 11 من اللائحة نفسها أنه يجب أن يرفق السعر المرجعي للعقار وتاريخه في تقرير التقييم العقاري المرفق لعقد التمويل العقاري .. فهل هذه الإجراءات كافية لمنع ارتفاع الأسعار؟
من الواضح جدا أن السعر المرجعي سيتأثر بعوامل عديدة، أولها أسعار البيع الفعلية للعقارات في منطقة معينة، وهذه مشكلة أزلية في أسعار العقار، فسعر المتر لا يتراجع في الأوقات العادية، بل يستقر، وعند حدوث بيع بأسعار أكثر من سعر المتر المعلن (وهو حق مستقر للبائع والمشتري بحسب التفاوض بينهما ولن يمنعه أحد)، فإن السعر المرجعي حتما سيتأثر وترتفع الأسعار عموما في المنطقة كلها، فلن يؤثر تدخل المحافظ ولا تعليماته في الحد من ذلك، بل لو تدخل المحافظ في السعر المرجعي فسيفقد السعر قيمته ولن يستخدم فعليا؛ لأنه لا يعكس حقيقة الوضع في السوق، لذلك لا معنى لتعليمات المحافظ التي نصت عليها اللائحة، بل هي مأخذ عليها. تقرير التقييم العقاري مهم، وكنت أتمنى لو أن اللائحة عززت موقف هيئة التثمين في هذا الجانب بحيث ينص النظام على عملية التقييم العقاري بشكل منفصل، وأن يكون المثمن مرخصا له، وأن يتحمل المثمن مسؤوليات الفشل في التثمين الصحيح، هذا قد يكون أكثر فاعلية من مجرد سعر مرجعي.
سأوضح قلقي أكثر، فالنظام لم يقيد الضمانات التي ستأخذها مؤسسة التمويل العقارية برهن العقار فقط، بل جعلت الأمر مفتوحا على مصراعيه كما هو الحال الآن، وهذا ما أشارت إليه المادة رقم 9 في بيانات العقد التي من ضمنها الضمان والتأمين اللازم دون تصريح بمعنى الضمان ومحدداته، وكذلك المادة رقم 24 من اللائحة التنفيذية التي أشارت في الفقرة 6 منها بأن بمعايير الائتمان المتعلقة بالضمانات (هكذا دون قيد لهذه الضمانات أو مرجعية تفسيرية لها)، وهو كما قلت سيفتح الباب للمؤسسات للبحث عن ضمانات أخرى غير العقار المرهون. والأثر الخطير هنا هو أن مؤسسات التمويل العقارية لن تهتم بسعر العقار نفسه ولا حالته، بل بالضمانات، وهو ما يحدث الآن فعلا في عقد التأجير التمويلي للعقارات، فالبنوك لا تهتم بالسعر فقط مجرد عرض أسعار من البائع وعلى المشتري أن يقدم ضمانات كافية أهمها أن يرهن راتبه طوال مدة العقد؛ لذلك لم يهتم البنك بأسعار العقارات فارتفعت بجنون، فالمشتري لا يهمه سوى القسط الشهري، لذلك فهو يفاوض البنك على الفائدة والمدة فقط، بينما البائع سيرفع السعر لعدم وجود تفاوض حقيقي والبنك سيدفع أي سعر طالما هناك ضمانات غير العقار، المشتري سيدفع رغما عنه حتى لو تم بيع البيت لآخر فإنه سيدفع المستحق عليه كاملا.
اللائحة التنفيذية نفسها لم تخف قلقها من هذه النقطة المفصلية في الأمر ففي المادة رقم 28 أشارت إلى أنه على شركة إعادة التمويل تجنب الإفراط في استخدام تسهيلاتها حتى لا تؤثر في أسعار العقار، فهل وضحت اللائحة كيف ستفعل مؤسسة إعادة التمويل العقاري ذلك، خاصة إذا ارتفعت الأسعار المرجعية نظرا لحجم الأموال المتاحة في السوق وقلة المعروض. القلق هو أن تكون شركة إعادة التمويل العقاري مخرجا لأخطاء التقييم التي قامت بها مؤسسة التمويل العقاري، وهي المشكلة نفسها التي حدثت في الولايات والمتحدة والنظام لم يقدم حلا جذريا لها.
في اعتقادي- ولعله خطأ- لو أن النظام قيد الضمانات بالعقار المرهون وقيد أعمال إعادة التمويل العقاري بالسعر المرجعي وبالتثمين العقاري المرخص، فإن مؤسسات التمويل ستكون شديدة الحرص على أن يكون سعر العقار حقيقيا ويعكس واقعه العقار نفسه وحالته، وهذا سيجعلها دائما حريصة على عدم ارتفاع الأسعار بأكثر مما يمكن للرهن تغطيته فعلا عند البيع. في اعتقادي لو أن مثل هذا ذكر أو أشير إليه بشكل مباشر، فإن السيطرة على الأسعار قد تكون محتملة، أما في ظل هذا النظام ومع الشح الذي تعانيه السوق والأسعار الملتهبة، فإن أسعار العقار مع الرهن ستتجه إلى أعلى. قد لا أكون الشخص المناسب للحديث عن هذا الأمر، وقد يكون هناك من هو أفضل وأحق مني، لكن هذه ملاحظات أقلقتني في النظام وقد أكون على خطأ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي