المشعلُ والقداحة: النور والنار

.. كُتّابُ إشعال الخلافات كمُطلقي الألعاب النارية، لهم مقروئيةٌ ملموسة. لذا لا نعجب أبداً أن كثرتْ شعبيةُ هؤلاء الكُتّاب لأنهم يعلمون أنهم ماهرون بهذه الصنعة، وهي صنعة سهلة جداً: أن تجري مع تيار الاختلاف للخلاف. وعندما تنبع الأزماتُ نكون كمجتمع أمام محنتين: محنة الأزمةِ النازلة، ومحنة هؤلاء الذين يؤجّجون سعيرَ الأزمة. هؤلاء الكتابُ هم الذين يشعلون الأحراشَ وراء كتيبةِ الإطفاء! وأحفظ حق الرأي لهم، لو أنهم يؤمنون بالرأي وليسوا مدفوعين له دفعاً، فاستجابوا.
الإعلامُ كصفةٍ وهدفٍ وغرضٍ لا يحدِّدانه القلمُ ولا لوحة المفاتيح، ولكن هذه الحروفُ التي تلون البياضَ، فإما أن يضيفَ إلى البياض نوراً، أو يسوِّده بالحلكةِ والقتام، هذه الحروفُ التي قد تكون مشعلاً ينير مسالكَ الخير للمجتمع والأمة، أو تكون قدّاحة تضمِرُ شعلةَ الشرِّ في أكوام القش الجاف، فتنفخ في خلافاتِ الأمة بدل أن تخمدها، أو تخترع خلافاً جديداً، أو تعمّق نزفَ خلافٍ قديم.
الكاتبُ مخبوءٌ في ضميره، إلا أني أقول إن ما في الضمير لا يبقى خبيئاً متوارياً في كل حال، فمتى اختار الكاتبُ منجلَ الشر، فإن نيّات الشر من الدس والتزلف المريض، ودس المصالح الخاصّة على حساب مصالح الجموع تنبع سيلاً أسود في الكتابةِ يلاحظه المتلقّون. ومتى اختار الكاتبُ أن ينثر بذورَ الخير على الصفحات أو في وسيلةٍ مذاعة، فإن ضميرَ الأرض الذي خبأ يوماً بذرته الطيبة سيعلنه فوق سطحها شجرة زاهية مورقة مثمرة تسرّ الناظرين. لا تنس في النهاية أنك مهما كتبتَ فتلونت أو تلبست فإنك إنما "بطريقةٍ ما" تكتبُ نفسك، ومع الحبر تحدّد ذاتك.
من الظواهر التي تشخَّص في دنيا الإعلام أن الإعلام في مناسباتٍ ما لا "ينقل" الحقيقة ولكن "يخترع" حقيقة تلائمه، وهذا مضرٌ للجميع، خصوصاً إن كان توجهاً رسمياً بأن يُوحى لصُناع الإعلام أن يخترعوا "الحقائق".. أضر الصفات صفة الكذب فهي منبع كل الخبائثِ والفشل.
وتقرأ في مذكرات الحرب الثانية لقادةٍ ألمان خطوا مذكراتهم يُجمعون على لوم وزير الإعلام النازي الشهير "جوبلز" كذاب حزب الرايخ الثالث، وهو من صنع من الكذبِ الإعلامي مدرسة ونظرياتٍ وعلماً.. وهو الذي يقول: "اكذب واستمر في الكذب حتى يصدقك الآخرون"، والذي حصل في النهاية أن الألمان هم الذين صدقوا ولم يصدقهم أعداؤهم فخسروا الحرب، وهو الذي قال: "إني أتلمس مسدسي كلما سمعتُ كلمة الحرية".. فقتلته الحرية. ولكن مع هذا الدرس التاريخي القريب ما زالت مدرسة "جوبلز" حية ومنتعشة وتكبر مع كل يوم. دور الإعلام العلمي والوطني والفكري ألا يصنع الأكاذيبَ، لأنه بأكاذيبه إنما يحفرُ للعطن بعظم الأمة!
الإعلامَ يختارُ من خلال منتميهِ وكتّابه وصنّاعه، إما أن يكون أصلاً، أو يختار أن يكون شبحاً. يختار أن يكون صوتاً أو يكون مجرد صدى، وصحيح أن منتمي الإعلام ليسوا مخيّرين في حرياتهم في مجمل الظروف، ولكن الحصيف المتمسك بالحقيقةِ سيعرف كيف يبحث عنها دون أن يزحفَ على ألغام الأخطار، وألاّ تقول شيئاً خير من أن تقول شيئاً ضاراً.. فالخيارُ بين الخير والشر متاح.. لا عذر!
مسؤولو الأجهزة الرسمية مسؤوليتهم العادلة أن يتيحوا لهواء الإعلام أن يدور بطاقته الطبيعية والتلقائية، ولا يتدخلون إلا تدخل من يمنع هواءً فاسداً يتفق الرأيُ العام على فساده، أن يكونوا كالطبيب الذي يعقـِّمُ مكان الجراح من القاذورات والمكروبات حتى لا تلتهب الجراح بما هو مقبول كضررٍ بالمنطق العام.
وأضرب مثلاً بهذه القصة البليغة المعنى والدرس: يوماً ما تبع شرطيُ مرور سيارةً مسرعة تخرق نظام السير بعنف، ليوقف السائقَ ويقرر عليه عقوبة النظام، فوجئ أن قائدَ السيارة كان رئيس قلم المرور.. إلا أنه واصل بشجاعةٍ وثباتٍ تحرير المخالفة والرئيسُ يتميّز غيظاً، إلا أن الشرطي الحكيم صبّ ناراً بارداً على أعصاب الرئيس التي تغلي حين قال: "سيدي، لا أود أن تسمع أن ابنك أو ابنتك قد ماتا بالطريق، لأن سائقاً مخالفاً قرر أن يخاطر بحياة المارة.. فهذه المخالفة من أجل أن يعيش أولادك!".
سيداتي وسادتي، على كل مسؤولٍ إعلامي رسمي، وكل منتمٍ إلى مهن الإعلام المتعددة أن يعرف أن كل ضررٍ يقترفه، أو كل خيرٍ يقوم به في مهنتِه سيصيبُ من عرض الناسِ.. أحبابه!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي