غياب الانضباط معضلة تفسر كثيرا من معاناتنا
على الرغم من أن الانضباط يعد جزءاً رئيساً من السلوك الاجتماعي وليس عنصراً إضافياً أو ترفا يميز النخبة، فإن التأكيد عليه هنا كصفة من صفات المجتمعات المتحضرة وعنصر من عناصر النجاح والتميز جاء بسبب ما تلاحظ للكثير من تفشي هذا السلوك السلبي في مجتمعنا ومن عدم اكتراث كثير منا به واعتباره أمراً ثانوياً.
في تقديري أن الانضباط في السلوك الاجتماعي وفي العمل يمثل أساساً وعنصرا رئيسا إذا ما اختل أداء المجتمع بكل أبعاده، وأصبح يمثل تحد قوي للبرامج التنموية كلها ولم يعد للمقومات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى أي دور مهما تم تطويرها والعناية بها؛ وبمعنى آخر فإن الانضباط الاجتماعي والانضباط في العمل كالأساس للمبنى الإنشائي، لا يمكن أن يقوم إلا بدرجة عالية منه.
إذا كان ثمة صفة تميز المجتمعات المنتجة فإنها خاصية الانضباط الاجتماعي والانضباط في العمل ... لقد كان ذلك أحد أهم العناصر التي ساعدت تلك المجتمعات على النجاح وعلى تحقيق أهدافها.
الانضباط مبدأ يتعدى الانضباط في الوقت فقط إلى الانضباط في كل الممارسات الاجتماعية (احترام الوقت واحترام حق الآخر واحترام نظم وقوانين المؤسسات الاجتماعية والإنتاجية والتنموية، ابتداء من احترام حقوق الآخرين والالتزام بمواعيد العمل وبنظم المؤسسات التعليمية والصحية والخدمية الأخرى وانتهاء بقيادة السيارة) كلها عناصر أساسية وجوهرية لنمو المجتمع ولتحقيق أهداف التنمية وتميز المنظمات. ولست بحاجة إلى القول بأن غياب الانضباط الاجتماعي يفضي إلى تدن في الإنتاجية وجودة الأداء وتراجع في مستوى التحصيل العلمي وإعاقة لحركة المرور وتأخر في تنفيذ برامج التنمية ومشاريعها، وغيرها من الأمراض الاجتماعية والتنموية الأخرى.
ومن الجدير بالذكر أن تأصيلها أمرا يسيرا جداً حتى في المجتمع الذي لا يمثل الانضباط لديه مبدأ من مبادئ العمل وأسسه. يمكن للمجتمع تحقيق نسبة عالية جداً من الانضباط من خلال عدة وسائل يصعب حصرها في هذه العجالة.
كل المجتمعات والمنظمات المتحضرة يمثل الانضباط بالنسبة لها مبدأ وضرورة وليس ترفا.. لا تتصور أنك ستحقق درجة مقبولة من الانضباط بين العاملين في منظمتك قبل أن تبدأ بنفسك.
عندما نمارس حياتنا الاجتماعية ونعمل بانضباط تام ونحترم الوقت سنلاحظ أن هناك متسع لعمل معظم الأشياء إن لم يكن كلها.. ليس عنصر الوقت ومحدوديته مسؤولا عن تقصيرنا في أدائنا لأعمالنا ولا يجوز أن نلقي باللائمة عليه .. ينص قانون القوة الفاعلة على أنه ''يوجد دائماً وقت كاف لعمل أكثر الأشياء أهمية''.
كثر هذه الأيام تذمر الناس من تدني مستوى الانضباط الاجتماعي وتضاؤل إن لم يكن غياب هذا المبدأ.
يشتكي المعلمون من عدم انضباط الطلبة في العملية التعليمية حضورا وأداء لواجباتهم وتشتكي المصحات من عدم التزام المرضى بمواعيدهم وتتذمر المؤسسات الإنتاجية من عدم انضباط العامل السعودي في عمله والتزامه بمتطلبات العمل الرئيسة، ويعاني المجتمع كله من السلوك غير المسؤول في قيادة الكثير لسياراتهم. والذي يبدو أن معظم المشاكل الاجتماعية وتدني مستوى الإنتاج لدينا يعود لدرجة كبيرة إلى غياب الانضباط الاجتماعي.
ومن المفارقات العجيبة أن الانضباط والمواقيت والتوقيت واحترام حقوق الآخر مبدأ وأصل في ديننا الحنيف، الأمر الذي يعني أننا يجب أن نحتل المرتبة الأولى في قائمة المجتمعات المتحضرة، أي أن نكون قدوة في السلوك الاجتماعي.
الذي يعي ويدرك تعاليم الدين الإسلامي وسيرة النبي الكريم يتوقع أن مجتمعنا يمثل مدرسة في الانضباط، يستفيد ويتعلم منها الزوار أسس ومبادئ وقيم السلوك الاجتماعي. لكن مع الأسف معظم أولئك الزوار يفاجأون بواقع مخالف لتوقعاتهم.
وباختصار فإنني أعتقد أننا أحوج ما نكون للوقوف على هذه المعضلة ومراجعة أسبابها وتبعاتها والعمل على صياغة وثيقة اجتماعية لتأصيل هذا المبدأ، على الأقل لدى الجيل الجديد والأجيال القادمة وصولا إلى مجتمع منتج يعكس قيم ومبادئ دينه العظيم.