الخيار الوحيد المتاح
تُرى ماذا يتعين على البنوك المركزية أن تفعل عندما يبدو الساسة عاجزين عن العمل؟ حتى الآن، كانت البنوك المركزية على استعداد للمقاومة، وإيجاد سبل جديدة وغير تقليدية على نحو متزايد في محاولة للتأثير في اتجاه الاقتصادات المتعثرة، ولكن كيف لنا أن نحدد متى تتجاوز البنوك المركزية حدودها؟ ومتى تتحول الجرأة إلى تهور ورعونة؟
إن البنوك المركزية قادرة على الاضطلاع بدور مهم في أوقات الانكماش الدوري. فمن الممكن أن يساعد خفض أسعار الفائدة على زيادة الاقتراض، وبالتالي الإنفاق على الاستثمار والاستهلاك. ومن الممكن أيضاً أن تلعب البنوك المركزية دوراً مهماً عندما تتجمد الأسواق المالية. فمن خلال تقديم عروض الإقراض الحر في مقابل ضمانات، تعمل البنوك المركزية على "تسييل" الأصول وحماية البنوك من الاضطرار إلى إفراغ حمولاتها من القروض أو الأوراق المالية بأسعار بخسة. وعندما تتوقع البنوك ضمان السيولة على هذا النحو فسيكون بوسعها أن تقدم قروضاً سائلة طويلة الأجل أو الاحتفاظ بأصول مالية أخرى غير سائلة.
وقد تكون هذه السياسات النقدية غير التقليدية - بما في ذلك الأشكال المختلفة من التيسير الكمي، فضلاً عن التصريحات عن إطالة أمد أسعار الفائدة المنخفضة - قد تكون مبررة بقدر ما تخدم هذه الأدوار.
على سبيل المثال، كانت الجولة الأولى التي أقرها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من التيسير الكمي، والتي تم تنفيذها في خضم الأزمة، مؤثرة بشكل مضاعف. فمن خلال شراء الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، نجح بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة في هذه السوق المهمة (وربما جزئياً من خلال الإشارة إلى ثقته في هذه الأوراق المالية)، وإعادتها إلى حيويتها السابقة. وعلى نحو مماثل، قدم البنك المركزي الأوروبي، من خلال برنامج المعاملات النقدية الصريحة، عرضاً بشراء السندات السيادية للدول الواقعة على أطراف منطقة اليورو في السوق الثانوية - شريطة قبول هذه الدول الإصلاحات المتفق عليها.
والمنطق هنا هو أن هذه الشروط سوف تضمن قدرة الدول على سداد ديونها، في حين يعمل برنامج المعاملات النقدية الصريحة على إعادة الثقة إلى السوق التي انهارت بسبب خوف المستثمرين من احتمالات خروج البلدان المعنية من منطقة اليورو. ومرة أخرى، كان تأثيرها حتى الآن كبيرا.
على سبيل المثال، تتسبب أسعار الفائدة المنخفضة لفترة طويلة في إلحاق الضرر بالمدخرين الذين يفضلون تقليدياً الاستثمارات الآمنة القصيرة الأمد. وقد يلجأ المتقاعدون ومن اقتربوا من سن التقاعد إلى الحد من الاستهلاك في مواجهة الدخل المنخفض من الفائدة، وهذا كفيل بإضعاف الاقتصاد. وقد يخوض المتقاعدون الأكثر جرأة، في محاولة يائسة لتوليد عائدات أعلى، مجازفات لا داعي لها - على سبيل المثال، الاستثمار في السندات غير المرغوب فيها - وهو ما قد يعرض مدخراتهم للخطر. ومن المؤسف أن خوض المجازفات المالية على هذا النحو قد لا يكون مؤثراً إلا قليلاً من حيث تحفيز الشركات وحملها على خوض المزيد من المجازفات من خلال الاستثمار.
وبالمثل فإن أحد الجوانب السلبية المحتملة في التيسير الكمي هو أن أسعار الفائدة المنخفضة ترسل رؤوس الأموال إلى دول حيث النمو وأسعار الفائدة أعلى. ومن الناحية النظرية، فإن أسعار الصرف لدى هذه البلدان سوف ترتفع بسرعة مع تدفق رأس المال إليها، الأمر الذي يجعلها تبدو غير جذابة فينقطع تدفق رؤوس الأموال تلقائيا، ولكن في الممارسة العملية، ومع حصول المستثمرين على عوائد من تجارتهم، فإنهم يجلبون المزيد من الأموال، وهذا يعني المزيد من ارتفاع قيمة العملة.
من بين الحجج الدفاعية الأخيرة التي يسوقها أنصار الاستمرار على مسار السياسة النقدية المغامرة، حتى على الرغم من ضآلة الفوائد، أن السياسة النقدية هي "الخيار الوحيد المتاح" لأن الساسة يرفضون تسوية الخلافات فيما بينهم والشروع في العمل. في الأنظمة الديمقراطية، عندما لا توجد بدائل أخرى، فإن الساسة يفعلون الصواب في نهاية المطاف غالبا. ومن خلال خلق انطباع بأن ما يتم اتخاذه من إجراءات مفيد، تعمل السياسة النقدية غير التقليدية على تخفيف الضغوط عن الساسة، لذا فعندما تزعم البنوك المركزية أنها تمثل الخيار الوحيد المتاح فإنها تعمل بذلك على ضمان هذه النتيجة.
إن القائمين على البنوك المركزية اليوم يتمتعون بشعبية نجوم موسيقى الروك، وهم يستحقون هذه الشعبية عن جدارة، لأن استجابتهم للبيئة الصعبة المحفوفة بالشكوك أثناء وبعد الأزمة المالية كانت مثالية - إلى حد كبير - ولكن يتعين عليهم أن يعترفوا عندما تفرغ جعبتهم من الحيل، فالتحول من بطل إلى نكرة قد يكون خاطفاً ومفاجئا.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.