الإدانة.. والقدر

إزاء كل حادث جلل يرج مجتمعنا ويصعق مشاعره تبرز ردة فعل حادة تكرر نفسها كظاهرة تكاد لا تخرج عن موقفيْن، إما الإدانة لكل مَن أو ما له علاقة بالحدث، أو القول إن ذلك قدر - وهذا حق لكن ليس على أنه رخصة مطلقة للتفريط، بل على أساس "اعقلها وتوكل" - وقد عبّر عن هذه الظاهرة الشاعر الراحل عبد الله الحمد السناني على أثر كارثة مروعة سقطت فيها منذ سنوات مدرسة للبنات في مدينة جلاجل على أجساد التلميذات الغضة استنزفت المآقي وأدمت القلوب .. قال:
أنا من قوم إذا ما فرطوا
نمقوا العذر وقالوا القدر
إن من الطبيعي أن يستصرخ الحدث الأليم الأسئلة الحارقة، وإن من الطبيعي أيضاً أن تتجه أصابع الاتهام إلى هذه الناحية أو تلك، وإن من الطبيعي كذلك أن يجتهد الناس في البحث عن الأسباب وأن يشخصوها، لكن ما ليس طبيعياً هو أن يضحك الشيطان ملء شدقيه بالطريقة نفسها كل مرة على أخطاء تشبه بعضها رغم أنه كان يتم التنبيه إليها جملة وتفصيلاً في صحفنا ووسائل إعلامنا ثم مواقعنا وساحاتنا الإلكترونية، ومع ذلك تخبطنا الكارثة على حين غرة - وكأنها لا بد أن تستأذننا!! - فإذا نحن تماماً نعيد سيرة أجدادنا الأعراب مع شاعرهم دريد بن الصمة الذي حذرهم عندما كانوا في مكان يُقال له "منعرج اللوى" من أن الأعداء قادمون فاستخفوا به إلى أن دهمهم الخطر .. قال:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد!
وما زالت استبانة النصح بالنسبة لنا هي ذاتها أيضاً لا تأتي - مع بالغ الأسف - إلا في ضحى الغد فقط .. بعد حلول الكارثة!!
ومع أن ظاهرة ردة فعلنا مشطورة بين الإدانة والقدر، إلا أن الإدانة نفسها لا تقف عند اتهام المقصرين والمهملين والمتصامين عمّا يُنشر ويُقال وعمّا يُؤخذ في الغالب على أنه نوع من اللغط واستهداف شخصي أو جهوي أو تطفل على المجال، فضلاً عن أن يتم إنكار ما تم التنويه إليه واستنكاره .. أقول: إذا كانت الإدانة تذهب في هذا المنحى، فثمة إدانة تذهب بعيداً في إصدار حكم أنثروبولوجي قدري غاشم على شعب بأكمله .. هو شعبنا .. كيف؟
في حادث صهريج الغاز المشؤوم شاهد الناس فئات من الغوغاء تدهم مستودع شركة الزاهد وتنهب محتوياته على نحو يثير القشعريرة.. هذه الصورة الصادمة أجّجت في النفوس جاهزية إصدار الإدانة المسبقة بأن هذه المسلكية المتخلفة متجذرة في هذا الشعب وسمة طبيعية فيه وبالتالي فلا غرابة في أن يحدث ما حدث، (وكأن هذا لا يحدث في مدن أمريكا وأوروبا لمجرد انقطاع التيار ليلا مثلا)، علماً أنه في الوقت الذي كان يتم فيه السلب والسطو كانت جموع من الشباب قد نذرت نفسها لتنظيم المرور والمساعدة في عمليات الإنقاذ، غير أن جاهزية الحكم بالإدانة بالجملة هي التي على ما يبدو تستوطن عقلنا الجمعي لأنها تخمد أنفاس الأسئلة وتطفئ نار الوعي التي لا لزوم لها!!
ظاهرة الإدانة الجمعية كانت بارزة كذلك في حادث العرس المأساة في بقيق، ففضلاً عن القول إن مسؤولي شركة الكهرباء لم يهتموا بخطورة تمديد كابل الضغط العالي معلقاً فوق الرؤوس قيل إن أصحاب المقر لم يهتموا ولا أهل المحيط، كما لم يضع هؤلاء "المتخلفون!" مطلقو النار في اعتبارهم وجود هذه الكيابل وإمكانية صعق الحفل بها، (إن كانوا أصلاً على دراية بالأمر)، وتم نسيان أنه حتى في غمرة المأساة كانت هناك عقول وسواعد تعمل، غير أن خاصية اغتيال العقل جملة بالإدانة ظلت هي الأيسر ربما لأننا أمعنا في حفر تجاويف سراديبنا النفسية جيلاً فجيل وأودعنا فيها ترسانة من مقولات الإجهاض العقلي أو الإجهاز عليه، مثل: باب سد الذرائع .. أو .. "الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح"!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي