قراءة في صفحة العيد!
حينما يأتي العيد تهبُّ معه نسمات الفرحة.. تهدهد قلوب الناس في رقة، كصنيع أم حانية مع طفلها الوليد، حين تقلقها أناته فتسرع الخطى إليه لتلتقطه من شجونه وتلقى به في حضنها الدافئ.. تحتويه.. تنزع من نفسه الحزن.. تعيد إليه الفرحة.. وترسم على ثغره البسمة، فالعيد مثل الأم التي تعود طفلها وتتفقده بين حين وآخر لتنظر حاله، ثم تقرر في شأنه ما يسعده ويعيد الفرحة إلى قلبه!.
حينما يأتي العيد تجيء معه نفحات الأمل.. تدق دقاً رقيقاً على أفئدة البشر لتقدم لهم البشرى بأن بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد الهم يأتي الفرح، وبعد التعب تأتى الراحة، فالعيد سنة نبوية، تتجلى بإحيائها إحدى سنن الله في الحياة، وهى سنة المداولة، إذ الأيام لا تبقى على هيئة واحدة، فهي دول بين الناس، بحيث لا يبقى البائس بائساً، ولا يبقى الفقير فقيراً، ولا يبقى الذليل ذليلاً، وفى ذلك أمل للضعيف كي يستمر في الحياة، ناظراً إلى الأفق، ينتظر هلّة الفجر البهيجة.
حينما يأتي العيد تتلاحم لبنات المجتمع التي فككتها أهواء النفس الأمارة بالسوء، فهذان خصمان اختصما وفجرا في الخصومة، فلما قدم العيد أذاب جبل الجليد الذي بينهما، فتصافحا، وتعانقا، وتصافيا، وتعاليا على صغائر الأمور، وجعلا من الأخوة الصافية الصادقة محراباً إليه آبا، فهذه أرحام مقطعة وصلتها مناسبة العيد، وهذه أخلاق المشاطرة والمشاركة نثرتها مناسبة العيد.. وهكذا، فالعيد منحة من الله تجمع القلوب على الحب والمودة.
حينما يأتي العيد يتمَلك اليقين قلوب الموحدين بعظمة الإسلام، الذي اهتم بالمسلم روحاً ومادة، بل وجعل من إسعاد المسلم وإدخال السرور إلى قلبه عملاً لا يقل درجة عن الصلاة والصيام، ولذا سَنَّ سنة العيد سعياً لتحقيق هذا المطلب في حياة المسلم من باب الترويح عن القلوب، لأن القلوب تمل، وهنا وجب التنبيه إلى أن الإسلام لم يَدْع يوماً إلى العبوس، وتغليظ الحديث، وإنما دعا إلى الابتسامة، وإلى طلاقة الوجه، وإلى خفض الجناح، تحقيقاً للاستقرار النفسي والعصبي في المجتمع.
حينما يأتي العيد بوجهه الباسم المشرق، اصطحب في يمينه بواعث الثورة على النمطية في حياة المسلم، فمن أجل نفس مطمئنة متفائلة، ومن أجل عقل متزن وفكر ثاقب، ومن أجل قلب مؤمن خال من الكدر.. الخ، من أجل ذلك يصنع الإسلام التجديد بصفة دورية في حياة المسلم من خلال مناسبات العبادة المتعددة.. فهذه صلوات خمس على مدار اليوم، تُذهب عن النفس تعبها وتغسلها من همومها، إذ قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأنها «أرحنا بها يا بلال»، وعلى مستوى الأسبوع هناك صلاة جمعة تجمع الناس على الخير، وعلى مستوى العام هناك صوم وحج وعيدان، فإلى جوار أن هذه فروض وسنن مؤكدة، فهي تجدد بطريقة ربانية حياة المسلم، ليكون بشوشاً، متفائلاً، متجدداً.
حينما يأتي العيد تتدافع جنود الأمل نحو قلبي.. تهمس في وجداني بأن الناس سيعودون إلى الله عباداً طائعين، وجنداً مخلصين، إذ أن مشاهد التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح التي تخرجها أصوات الموحدين في الشوارع والمساجد والساحات في اتحاد وتناسق، وفى خشوع لافت، تبعث في النفس آمالاً بأن الإيمان في قلوب الخلق لا زال حياً، ولكن يحتاج إلى تنشيط كي يكون يقظاً في السلوك وفى الأخلاق وفى المعاملات.
إنّ الأعياد فرصة حتى نعود من جديد إلى حيث كنا، فرصة حتى نعود إلى قيمنا الجميلة وعادتنا الأصيلة، وأعرافنا العريقة، فرصة كي نتعانق وننفض عن كواهلنا غبار الخصام والشقاق.. فرصة لنرسم البسمة ونمسح الدمعة.. فرصة لنقبل أيدي من كانا سبباً لوجودنا في الحياة.. أب وأم شغلتنا عنهما دنيا وزوجة وأولاد.. فرصة كي نصافح الجيران الذين لم نرهم منذ عام والفاصل بيننا أمتار.. فرصة كي نواسى المكلوم ونعطى المحروم.
إنّ العيد فرصة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ورغم قتامة الصورة فلا زال الأمل يرسم أمامي طريق العودة إلى ما كنا عليه من زمن الحب الجميل، الذي لا يعرف الفروق المصطنعة بين غنىً وفقر، أو قوة وضعف، أو وجاهة وحقارة.. لكنه يعرف فقط معنى الإنسانية بكل أبعادها الجميلة!.