مَن يجرؤ على تغيير ثقافة الأجهزة الحكومية؟!

تساؤل مطروح في ظل تجذر ثقافة إدارية منغلقة وضعف في الأداء وتشرذم إداري ملحوظ في القطاع الحكومي. هذا التشتت الإداري ـــ إن صح التعبير ـــ حوّل الأجهزة الحكومية إلى جزر متناثرة متباعدة لتطغى أولوية وأهداف ومصالح الجهاز الإداري على المصالح العليا للوطن. هناك انكفاء للداخل وتحوصل أدى إلى تنافس غير محمود بين الأجهزة الحكومية يصل حد الصراع وسيطرة الفكر السلبي في أن النجاح يتحقق بخسارة الآخرين. فها هي الأجهزة الحكومية تهرول نحو وزارة المالية ووزارة الخدمة المدنية وتتسابق لاستحواذ أكبر قدر ممكن من المخصصات المالية والوظائف دون تخطيط مسبق وربطها بالتأثير النهائي في المجتمع وما تضيفه من قيمة للتنمية الوطنية والنفع الذي ستحققه للمواطن. هناك مشكلة إدارية تصل حد الأزمة تتمثل في غياب استراتيجية وطنية ملزمة لجميع القطاعات الحكومية تكون بمنزلة البوصلة وخطة طريق تتحد فيها الرؤى وتتضافر الجهود وتدفع نحو التعاون والتنسيق لتحقيق أهداف وطنية بعيدة المدى. لم يعد بالإمكان اختزال عمل الأجهزة الحكومية في تقديم خدمات عامة وإقامة مشاريع هنا وهناك مشتتة لا رابط بينها ولا تقود نحو بناء تنموي متكامل يسهم في انتقال مجتمعنا إلى مستويات أعلى من التحضر الاجتماعي والإنتاجية الاقتصادية والانطلاق نحو العالم الأول وإعدادنا لما بعد النفط. الحقيقة أن القطاع الحكومي يمثل حجر الزاوية في التنمية الوطنية وليس هناك سبيل نحو إحراز تقدم على مسار التنمية الوطنية، إلا بإصلاح الوضع الإداري وإحداث تغييرات جوهرية وجذرية في مفهوم ودور الحكومة في المجتمع. خيار الاعتماد على القطاع الخاص دون الارتقاء بأداء القطاع الحكومي لن ينجح لأن القطاع الحكومي مفتاح التنمية وكيفا يكون تكون التنمية. والقطاع الحكومي في وضعه الراهن مفكك غير قادر على تحقيق تطلعات القيادة السياسية وطموحات المواطنين، ولن تجدي نفعا أي محاولة للتطوير والإصلاح إذا لم يتم إيجاد صيغة جديدة لصناعة القرار الحكومي ترتكز على الترابط والتعاون والعمل المشترك بين جميع أطراف العملية التنموية. هناك نيات صادقة وحرص على تطوير أداء الأجهزة الحكومية، إلا أنها مختزلة في الشكل الإداري والإجراءات الداخلية وبرامج التدريب لكن لا تمس جذور المشكلة، بل ربما عززت الوضع الراهن لأن مثل تلك السياسات التطويرية تعطي انطباعا خاطئا في أننا نقوم بما يجب القيام به ويتلبس الجميع وهم أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان. المطلوب نظرة شاملة للوضع الإداري وتوسيع دائرة الإصلاح وتعميقها، ليس بهدف تحقيق الكفاءة ولا حتى الفاعلية وجميعها مهمة جدا ـــ لا شك ـــ لكن الأهم نقل المجتمع إلى مستويات أعلى من التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا يستلزم تغييرا في الثقافة التنظيمية الحكومية بحيث تعمل بروح الفريق ومسؤولية تجاه الوطن وأهدافه العليا.
وفي خضم انشغال الأجهزة الحكومية بأداء أعمالها الروتينية والمكوث في منطقة الراحة تبرز الهيئة العامة للسياحة والآثار كإحدى المؤسسات الحكومية التي أدركت منذ اليوم الأول لتأسيسها أهمية العمل الحكومي المشترك وأنه لا مناص من التعاون مع جميع الجهات من أجل تحقيق التنمية السياحية. وربما ساهمت طبيعة قطاع السياحة الذي تتداخل فيه أطراف كثيرة ويستدعي تعاونهم إلى انتهاج أسلوب المشاركة. لكن التوجهات الاستراتيجية تصنعها قيادات فذة ولا شك أن أسلوب الأمير سلطان بن سلمان القيادي التحويلي الذي يجمع بين الرؤية المستقبلية الواضحة والنظرة الواقعية العملية وعلى أساس من القيم الأخلاقية والمهنية الرفيعة، السر وراء قدرة الهيئة العامة للسياحة والآثار على اختراق جدار البيروقراطية السميك والنفاذ إلى عقول ووجدان القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية الأخرى وإحداث تغيير في أفكارهم وميولهم وسلوكهم ليروا الأمور من زاوية مختلفة. هذه هي الشراكة الحقيقية التي تتحد فيها الرؤى وتتسع دائرة المشترك بين جميع الأطراف المتداخلين في العمل الحكومي التنموي ليندفع الجميع نحو الهدف ذاته. من السهل بناء مبنى أو إقامة مشروع، لكن من الصعب تغيير ثقافة وسلوك وطريقة تفكير المسؤولين الحكوميين الذين اعتادوا وعبر زمن طويل على أنماط وعادات تنظيمية ترسّخت في أذهانهم وتجذّرت في نفوسهم يرون العالم من خلالها ويفسرون على أساسها ما يدور من حولهم ويتخذون قراراتهم بناء عليها.
لقد نجحت الهيئة في إحداث تغيير ثقافي عميق مبني على المشاركة ونقلت الأجهزة الحكومية المتداخل معها في عملية التنمية السياحية من نهج الاستحواذ إلى مسار البذل والعطاء، ومن الإغراق في الجزئيات والرؤية القصيرة إلى نظرة واسعة شمولية، ومن التفكير البيروقراطي الضيق إلى استهداف التنمية المحلية وما ينفع الناس. هذا تحول كبير وعظيم ربما لا يشعر به حتى منسوبو الهيئة! فكيف بمن هم خارجها. الأمر يتطلب وقتا طويلا ليتم إدراكه، لكن بكل تأكيد تأثيره الخفي هو التأثير الأهم في المستوى الوطني لأنه يجسّد نموذجا إداريا حكوميا مميزا ومرجعا مقارنا لما يجب عمله، فمن أجل أن يعرف المرء أنه طويل أو قصير يلزمه الوقوف بجانب شخص آخر، وهذا ما صنعته الهيئة العامة للسياحة والآثار من استحداث نموذج إداري حكومي يخرج عن النمط الثابت المألوف لتصبح المرجعية القياسية للأجهزة الحكومية. هذا التأثير الإيجابي نلاحظه في المحليات والمناطق حينما يتحدث المسؤولون المحليون عن تجربتهم الإدارية مع الهيئة وكيف أثرت إيجابا في رؤيتهم تجاه تحفيز التنمية المحلية وتفعيل جميع مكونات المجتمع وبناء القدرات المحلية بجهود ذاتية وخلق فرص اقتصادية جذابة. لقد اطلعت على الكثيرين من القيادات الإدارية بجميع مستوياتهم الذين تعاملوا مع الهيئة وكيف أنهم يرونها ليس كشريك ومهم ومحترم في نجاح مهامهم، لكن كمدرب محترف استطاعت أن ترفع من مستوى أدائهم وطرح موضوعات ومبادرات خارج المعتاد تعزز بناء الخبرات وتسبر أغوار المستقبل بجسارة بما يعود بالنفع على المجتمعات المحلية بالنفع العميم ويساعدهم على وضع حلول لمواجهة التحديات بأسلوب إبداعي واع ومخطط وليس بيروقراطيا ورقيا متثاقلا لا يستجيب لمطالب الناس الحقيقية. وأجزم كمتخصص في الإدارة العامة أنه سيأتي اليوم الذي سيتحدث فيه المختصون والعموم عن تجربة الهيئة وما أحدثته من تحول جوهري وعميق في العمل الحكومي وكيف تجرأت بطموح وطني ورؤية واضحة على تغيير ثقافة الأجهزة الحكومية المتداخلة في أنشطتها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي