الريال والتيسير الكمي

قبل أسابيع عدة اتخذت المصارف المركزية في أمريكا والاتحاد الأوروبي واليابان خطوات مؤثرة للاستمرار في سياسات التوسع النقدي، ولعل أهمها ما قام به ''المركزي الأمريكي'' للمرة الثالثة ما دعا وزير المالية البرازيلي مانتيجا، إلى أن يصف الخطوة الأمريكية بأنها ''حرب عملات''. مركزية الدولار كالعملة الرئيسة للاحتياطات في العالم النامي خاصة ونمط علاقتها مع أسعار السلع وخاصة النفط وسياسة تثبيت الريال مقابل الدولار تبعث على الحاجة إلى التفكير والتروي مع هذه المنظومة من العلاقات. تكاثر الدولار يرفع أسعار عملات الدول النامية ذات العملات الحرة الحركة، وبالتالي يضغط على قدراتها التصديرية. أولاً دعوني أقل لكل المنادين بتغيير العلاقة أو رفع الريال مقابل الدولار إنني لا أتفق معهم مثلما ذكرت سابقاً (''الاقتصادية'' عدد 6287 بتاريخ 28/12/2010 - لم يحن مراجعة الريال)، ولكن هناك حاجة دائمة إلى المراجعة والوعي بالمتغيرات العالمية ومصالحنا الوطنية في ظل هذه المنظومة.
تعتمد المملكة على النفط في المقام الأول والثاني لتمويل وإدارة نظامها المالي والاقتصادي؛ فالمال لدينا ما زال أهم من الحركة الاقتصادية، وبالتالي لن تصبح السياسات النقدية المرتبطة بالاقتصاد أكثر أهمية حتى تصبح السياسات الاقتصادية لدينا أهم من السياسات المالية، وهذا لن يحدث في المدى القصير أو حتى المتوسط (في المدى البعيد كما يقول كينز: كلنا سنموت)، فالحديث والعمل لدينا ما زال في مجمله يدور حول المصروفات والدعم وليس الإنتاجية والقيمة المضافة.
العوامل الأساسية في هذه المنظومة تقوم على حقائق عدة؛ أولاً: إن النفط لا يزال يُسعر بالدولار، وبالتالي فإن الصادرات السعودية مقومة بالدولار. ثانياً: إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين أسعار السلع والسياسات النقدية التوسعية للدولار (زيادة كمية المعروض من الدولار)، فكلما زادت هذه الكمية ارتفعت أسعار هذه السلع، كما نشهد في الذهب والنفط والسلع الزراعية، وبالتالي هناك علاقة بين مصلحتنا في زيادة العوائد النفطية أعلى من فاتورة الاستيراد في ظل وجود فائض تجاري، ولكن ما يصح للاقتصاد ككل قد لا يصح لكل الطبقات في المجتمع؛ فالتضخم في أسعار السلع يضر أكثر الأقل دخلاً (لأن الجزء الأكبر من مصروفاتهم مرتبط بالسلع وخاصة الأغذية)، ولذلك فإن الحل بإيجاد طريقة لتعويض هؤلاء. هنا أحد أكبر مطبات الإدارة الاقتصادية لدينا، القصور في كفاءة إدارة منظومة الدعم. ثالثاً: في الدول النامية الأكثر تحرراً في سياسة الصرف مثل البرازيل والهند وتركيا وحتى الصين إلى حد ما تجد أن انخفاض أسعار الفائدة على الدولار والتهديد بانخفاض قيمته يجعلان الأصول الاستثمارية في هذه الدول أكثر جاذبية (تضخم في الأصول)، ولكن هل هذا ما يحدث في المملكة؟ هنا قد يصعب القول، فمؤشر الأسهم لم يرتفع، بل إنه في انخفاض مقارنة بالسوق الأمريكي ''ارتفع المؤشر السعودي بنسبة 3.6 في المائة والأمريكي بنسبة 9 في المائة كمتوسط للأعوام الثلاثة الماضية حتى 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2012''، ولكن الصورة أصعب فليس للعقار مؤشر يستدل به والارتفاعات والسيولة غير متجانسة. عدا ما يذكر عن مؤشر وزراء العدل في حجم التداول، وهذا لا يقارن بحجم تداول الأسهم. يا ترى ما أسباب الانخفاض النسبي في الأصول لدينا؟ قد يكون السبب الرئيس في انخفاض أسعار الفائدة (غير مقنع تماماً)، وقد يكون بسبب الظروف السياسية في المنطقة (مقبول)، وقد يكون لكل من هذين الأصلين عوامل مترابطة أحياناً وتبادلية أحياناً أخرى (قابل للنقاش). رابعاً: وهو الأقرب إلى ما يخدم المصلحة الوطنية الآن أعتقد أن المراهنة على الاستقرار وإعادة التركيز على السياسات الاقتصادية، وخاصة الجزئية، أهم بكثير من التركيز على الريال في المدى المتوسط.
اقتصاد المملكة يختلف جذرياً عن الدول الرئيسة المؤثرة في العملات ويختلف بقوة أيضاً عن الدول النامية والقادرة على سياسات تنموية فاعلة، وبالتالي ما زال الارتباط بالدولار يخدم المصالح المالية وحتى الاقتصادية في المملكة. لعل السؤال الأهم هو مدى سلامة النظام المبني على مركزية الدولار في ظل الفجوات والعجوزات المالية في أمريكا وعدم قدرتنا على إعادة التركيز على إصلاح منظومة الدعم والاقتصاد الجزئي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي