عدنان مندريس في خطاب أردوغان
شَبَّه البعض المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية التركي، الذي اختتم أعماله في أوائل الشهر الجاري بـ "الاجتماع الإقليمي لجماعة الإخوان المسلمين"؛ بسبب الحضور اللافت لبعض القيادات الإخوانية التي وصلت إلى السلطة مثل الرئيس المصري محمد مرسي، وزعيم حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، وزعيم حركة حماس الفلسطينية خالد مشعل. في هذا المؤتمر ألقى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان خطابًا استمر نحو ثلاث ساعات. ومما ورد فيه قوله: "إننا نسير على خطى أجدادنا الفاتحين مثل السلطان ألب أرسلان والسلطان محمد الفاتح، وعلى خطى قادتنا العظماء أمثال مصطفى كمال أتاتورك وعدنان مندريس وتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان".
لم يكن مستغربًا أن يتحدث أردوغان عن سلاطين بني عثمان، فبلاده تسعى إلى استعادة أمجادها العثمانية كدولة سنية قوية في مواجهة إيران الشيعية، مستغلة هشاشة الحالة العربية. كما لم يكن مستغربًا تطرقه إلى أتاتورك وأوزال وأربكان. فالأول هو أبو الأتراك الذي لا يجرؤ أحد، مهما كانت توجهاته الأيديولوجية، على تجاهله أو انتقاده. والثاني هو من وضع لبنات الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه تركيا اليوم. والثالث هو الأب الروحي للحزب الحاكم، وأول من أوصل الإسلاميين إلى السلطة في تركيا العلمانية.
وهكذا توقف المراقبون أمام عدنان مندريس متسائلين عن أسباب إقحام اسمه ضمن قادة تركيا العظام. فمنهم من رأى في الأمر إعادة اعتبار للرجل من بعد طول نسيان، ومنهم من رأى أنه محاولة لإغاظة العسكر، ومنهم من قال إن أردوغان وحزبه يعتبران أنفسهما امتدادًا لمندريس وحزبه.
والمعروف أن مندريس، الذي تولى رئاسة الحكومة التركية ما بين عامي 1950 و1960، كان أول رئيس حكومة ينتخب ديمقراطيًّا في تاريخ تركيا، وزعيم رابع حزب معارض يؤسـس بصفة قانونية في عام 1945، ألا وهو الحزب الديمقراطي الذي فاز بالأغلبية الساحقة في انتخابات عام 1950، ووضع حدًّا لهيمنة حزب الشعب الجمهوري على السلطة منذ عام 1924.
إن الذين عاشوا زمن المد القومي العروبي والانقلابات العسكرية والحرب الباردة والأحلاف الغربية المعنية بأمن الشرق الأوسط، يتذكرون جيدًا عدنان مندريس؛ لأنه كان رأس الحربة للقوى الغربية في مواجهة المد اليساري والثوري، وحركة القومية العربية الصاعدة وقتذاك بزعامة جمال عبد الناصر.
وهذا الذي أعدمه العسكر شنقًا في عام 1960 مع وزير خارجيته فطين رشدي ووزير ماليته حسن بلاتقان، لم يشفع له أنه قاد تركيا طوال عقد الخمسينيات وأَمَّنَ لها الاستقرار في أجواء الشرق الأوسط المضطربة، ومنحها عضوية حلف شمال الأطلسي، فَضَمِنَ لها حماية غربية من تهديدات السوفيات. كما لم يشفع له أنه ساهم في تطوير الحياة الاقتصادية في تركيا من خلال برامج تنموية وزراعية وصناعية وتجارية وتعليمية جادة، الأمر الذي تقلصت معه معدلات الأمية والبطالة. ولم يتذكر العسكر التركي وهم يشنقونه أنه هو من أمـّـن لمؤسستهم أحدث الأسلحة الأمريكية والغربية وأفضل التدريبات والمساعدات، وذلك من خلال "حلف بغداد" الذي وضع ميثاقه بمشاركة رئيس وزراء العراق الأسبق المغفور له نوري باشا السعيد.
وربما الأسباب التي أملت على العسكر التخلص من مندريس شنقًا، هي الأسباب نفسها التي جعلت أردوغان يتذكره ويعيد له الاعتبار. وتوضيحًا لذلك لا بد من التذكير بأن مندريس كان عضوًا مطيعًا في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ونائبًا عنه في البرلمان، لكنه قام مع ثلاثة نواب آخرين في عام 1945 بمعارضة وتحدي رئيس الوزراء عصمت إينونو خليفة أتاتورك وحامي ميراثه العلماني، والانشقاق عليه عبر تأسيس حزب جديد، كما أسلفنا، حيث كانت الفرصة سانحة وقتذاك لتأسيس أحزاب جديدة بسبب رغبة إينونو في أن يـُجـّمل صورة تركيا أمام العالم. وقتها قيل إن أسباب انقلاب مندريس على زعيمه هو شعوره بأن الأتاتوركية مرحلة قد انتهت، وأن المفترض التعامل مع العالم برؤى جديدة، دون أن يعني ذلك المساس بالجمهورية أو نظامها العلماني أو غيرها من مبادئ أتاتورك الرئيسة. أما تلك الرؤى فكانت تشمل توسعة نطاق الحريات السياسية، وتعزيز حرية التعبير وحقوق الإنسان، وإنصاف الطبقات الاجتماعية الفقيرة، وتقديم تفسير جديد للعلمانية مفاده بأنها ليست عدوة للأديان، إنما تطالب بفصل الدين عن الدولة. ومن هنا حرص مندريس حينما خاض الانتخابات على إطلاق وعود انتخابية بإلغاء إجراءات إينونو العلمانية الصارمة التي كان من ضمنها جعل الأذان بالتركية وكذلك قراءة القرآن وإغلاق المدارس الدينية. وحينما فاز قام مندريس بإلغاء هذه الإجراءات، حيث أعاد الأذان إلى العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عالٍ، إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم. وبهذا فهو أتاح المجال أمام الإسلام السياسي للبروز من دون أن يدري أو يسعى.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن هناك الكثير من أوجه التشابه والتقاطع ما بين أردوغان ومندريس لجهة النهج السياسي والتوجه الأيديولوجي، والتحالفات الخارجية، والموقف من العسكر، والإنجازات الاقتصادية. فإذا كان يُعزى لأردوغان أنه أعاد الوهج والقوة إلى تيار الإسلام السياسي في تركيا من بعد الظهور الخجول له على يد "نجم الدين أربكان"، فإنه يُعزى لمندريس أنه من وضع أولى لبنات هذا التيار، رغم أنه لم يكن "إسلاميًّا" في يوم من الأيام.
وإذا كان أردوغان قد حافظ على روابط تركيا بالغرب من خلال منظمة شمال الأطلسي، رغم أيديولوجية حزبه القريبة من أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين، فإن مندريس هو أول من دشن تلك الروابط ورسخها.
وإذا كان أردوغان قد سارع إلى تكبيل يد جنرالات الجيش من خلال سن تشريعات جديدة، والقيام بعمليات تطهير ومحاكمة في صفوفهم، فإنه ربما أراد بذلك الحيلولة دون تكرار ما حدث في صبيحة 27 أيار (مايو) عام 1960، حينما قام 38 ضابطًا بقيادة الجنرال جمال غورسيل بانقلاب عسكري، تلاه حل وتجميد أنشطة الحزب الحاكم، وإعدام رئيسه مندريس، وإيداع رئيس الجمهورية جلال بايار في السجن مدى الحياة.
وإذا كان أردوغان يسعى إلى إضفاء مظاهر الأسلمة على تركيا كبديل لردائها العلماني ونهجها الكمالي الذي دشنه أتاتورك في عام 1924 باستبدال دولة الخلافة بالجمهورية، والشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية، والأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية، والرابطة الإسلامية برابطة القومية التركية، وإلغاء الأذان، وتبني شعاري "ليس للتركي صديق سوى التركي و"سعيد أنت أيها التركي أن تكون تركيًّا" فإنه يفعل ما فعله مندريس من قبل، لكن بحذر شديد ودون استعجال لكيلا يستفز خصومه.
وهكذا فإن إشارة أردوغان إلى مندريس كانت مقصودة وتحمل رسائل عدة إلى أكثر من جهة.