الشكاوى الكيدية في الجرائم الإلكترونية (2 من 2)
نواصل في هذه الحلقة الحديث عن قضايا الجرائم الإلكترونية، فإنه في عالم تقنية المعلومات، لا توجد أزمة في صناعة الأدلة، فهي متوافرة دائما، وبإمكان أي شخص صنع دليل ضد الآخر بمجرد استخدام برامج صغيرة تمتد من الفوتوشوب لتعديل الصور إلى التحكم الكامل في الهاتف الذكي أو جهاز الحاسب. فمثلا إذا كان الأشخاص يعيشون في المكان نفسه كالمنزل أو المكتب فالخيارات مفتوحة وأسهلها وضع لاصق على حساب الضحية لتسجيل المعلومات الصادرة والواردة للحاسب أو نسخ شريحة الجوال لتبقى الشريحة المنسوخة في متناول اليد لاستخدامها حسب الطلب (دون علم صاحبها). وقد حملت لنا الصحف السعودية كيف أن أحد القضاة في مدينة جدة اكتشف حيلة زوجة استخدمت جوال زوجها - بطريقة ما - لإرسال رسالة لجوالها تتضمن (أنت طالق) وقامت بإبراز هذا الدليل - المفبرك المضلل - للسلطات للحصول على الطلاق رغما عن الزوج المكلوم. ونجحت المرأة في تمرير هذه الخدعة على الكثير حتى وصلت للخبير العادل فعرف الخدعة وأبطلها.
إن السيطرة على ثغرات التقنية أمر مستحيل، والأمن لهذه التقنية مهما كان عالي الاحتراف فيعتبر أمنا مؤقتا. فأعتى المواقع تم اختراقها مثل شركة سوني ووزارة الدفاع الأمريكية وشركة أرامكو وغيرها. والجائل في أسواق الإنترنت يجد أن هناك برامج جاهزة وسهلة الاستخدام للسيطرة على الأجهزة المستهدفة والتحكم فيها عن بعد وبكامل خصائصها. وقد تتم قرصنتها بالتنصت فقط أو بسرقة المعلومات أو ربما استخدام الجهاز (دون علم صاحبه) كوسيط للتجول في المواقع المشبوهة أو اختراق أجهزة أخرى بعيدة. ويمكن زرع هذه البرامج في حاسب الضحية عن طريق البلوتوث أو مدمجا مع برامج أخرى أو حتى من خلال المرور على رصيف شارع المنزل أو الشركة. ومن طرائف الأخبار في هذا المجال، أن هناك مجموعات تقوم بالتجول في الشوارع لاقتناص شبكة اللا سلكي لأحد المنازل أو المكاتب واستخدامها دون أن يترك الجاني أثرا يتم تتبعه للوصول إليه، تاركا أعباء هذه الاختراق ليتحملها صاحب المنزل الغافل وتسمى هذه الطريقة wardrive (وور درايف) وبالإمكان معرفة المزيد عنها بالبحث في هذا المجال.
وكلما ازدحم الميدان باللاعبين والمراهنين على التقنية اتسع ليشمل الجميع، فعلى مستوى الأفراد، طالعتنا صحيفة ''وول ستريت'' بأن ثريا كويتيا قام باستئجار هاكر صيني لاختراق حسابات البريد الإلكتروني لأخيه (المختلف معه) ليعرف نقاط ضعفه من خلال مراسلاته مع محاميه وأطبائه. وعلى مستوى الحكومات، طالعتنا الصحف الألمانية بأن حكومة مقاطعة بفاريا اعترفت بشراء جهاز وتطبيقه في جمارك المطارات يستطيع نسخ جميع معلومات الحاسبات التي تمر من خلال التفتيش. بل يتعدى ذلك إلى زرع فيروس يقوم بإرسال أي معلومات جديدة على ذلك الحاسب. واعترفت الحكومة بتجاوزاتها القانونية حيث تم استخدامه ضد أشخاص لا توجد عليهم ملاحظات أمنية خطيرة، وما زالت فصول القضية تتكشف في المحاكم في ظل الديمقراطية والشفافية والعدل.
وللهروب من هذا الواقع، فقد ألفت الأعين إعلانات لشخصيات عادية وبارزة بالنفي والبراءة من حسابات اخترقت أو زيفت بأسمائهم سواء على البريد الإلكتروني المجاني مثل ياهو وهوتميل أو على شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتويتر أو على المواقع الإلكترونية. وذلك خوفا من استخدامها كدلائل مصطنعة تستخدم ضدهم لتشويه صورهم أمام الرأي العام. وإنني أرى أن معهم الحق، فموضوع تزييف أو اختراق هذه الحسابات أسهل بكثير مما قد يتصوره البعض.
وحيث إن الصراع بين الحق والباطل قائم منذ الأزل، فقد وقفت الشريعة الإسلامية بحزم ضد هؤلاء الأشرار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...) الآية، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط من الله حتى ينزع)، وقال أيضا: (من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط من الله حتى ينزع). كما قضت مبادئ المشروعية والقواعد القانونية بأن (العبرة فى تكييف النظام بحقيقة جوهره ومرماه لا بما يخلعه عليه الخصوم) وأن (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
ودعم نظام مكافحة الجرائم الإلكترونية السعودي هذا الاتجاه وأوضح العديد من نقاط الالتباس والجدل، حيث ذكر أن الجرائم الإلكترونية جرائم عمدية ولا بد أن يتوافر القصد الجنائي من علم وإرادة، وتسقط الجريمة في حالة انتفائه. كما استثنى العديد من الموضوعات والوسائل لأنها تخرج عن أحكام النظام على اعتبار أن القضايا التي يسري عليها النظام واردة على سبيل الحصر، وأن النصوص النظامية لا يجوز القياس عليها أو التوسع في تفسيرها.
ومع محاولات النظام التصدي لمكافحة الجرائم الإلكترونية لكنه غفل تماما عن صانعي الأدلة المضللة وأصحاب الشكاوى الكيدية الإلكترونية، فلم يدرج عقابهم في نصوص خاصة مع أنهم أشد فتكا بالمجتمع والأخلاق والمصلحة والآداب العامة من باقي أنواع المجرمين، لذا لا بد من إضافة نصوص خاصة في النظام تجرم بكل وضوح الشكاوى الكيدية الإلكترونية وصناعة الأدلة وتشدد لممتهنيها العقاب بوجه خاص لردع نواياهم الخبيثة ورد كيدهم في نحورهم، أسوة بما صدر من تعليمات مشددة للحد من الشكاوى الكيدية وقضايا التزوير في القضايا العادية.
أخيرا: حيث إنه لا يوجد أحد بمنأى عن هذا الفخ وهذه الممارسات، لذا فإن التوعية مهمة في هذا المجال.