الشكاوى الكيدية في الجرائم الإلكترونية (1 من 2)
إن طوفان التطبيقات السلبية لتقنية المعلومات قدم دعما لصناعة الأدلة المفبركة فأعطاها قولبة خاصة وإتقانا شبه كامل لاستخدامها في سياق تبرير عمل معين أمام الرأي العام أو الخاص، وذلك بتضليله بهذه الأدلة الكاذبة لتحقيق أجندة خاصة. وتتوافق هذه الاستخدامات مع المثل الألماني (الأكاذيب المتقنة يصدقها أناس كثيرون).
ومن أشهر الأمثلة العامة على ذلك صناعة الولايات المتحدة الأدلة المفبركة حول وجود أسلحة الدمار الشامل والادعاء بتحديد مواقعها بتقنية الأقمار الصناعية، وذلك لتبرير غزو العراق. وعندما لم تقنع هذه الأدلة أيا من الخبراء في مجلس الأمن، انفردت أمريكا وحيدة بتنفيذ أجندتها خارج القانون الدولي. وبعد خفوت نار الحرب السياسية والإعلامية اتضح كذب هذه الأدلة وعدم العثور على الأسلحة المزعومة.
وفي عالم تحكمه الأهواء الشخصية وغايته تبرر وسيلته، تعتبر صناعة الأدلة وسيلة أساسية لعمليات الاحتيال والخداع سواء على المستوى السياسي أو الإداري أو الاجتماعي أو حتى على مستوى الأفراد. حيث تمنتج هذه الأدلة المصطنعة لاستخدامها سلاحا فتاكا لتصفية الخصوم والإطاحة بهم، ابتداء بالدسائس والوشايات وانتهاء بالحروب. وغالبا ما تنكشف أقنعة هذه الأدلة عند وصولها للخبراء والقضاة العدول، لذلك يستميت صانعو هذه الأدلة المفبركة لتفادي مرورها على عين الخبير وميزان العدل والقانون ويفضلون حسم القضية بأوامر عليا لمصلحتهم، أو بتسويات خارج إطار العدالة يكونون فيها هم الطرف المستفيد.
إن دورة حياة صناعة الأدلة الكاذبة تمر أولا: بتحديد المتهم المستهدف، ثانيا: يتم صنع الدليل المناسب لمحاولة إدانة هذا البريء. وفي أعراف هذا العالم المخادع، تكون الحاجة ملحة جدا لصناعة الأدلة المضللة، كلما كانت ملفات المستهدفين منقوصة أو خالية من العيوب. لذلك تتم ممارسة الاحتيال لصناعة الأدلة وتركيبها على مقاس الإساءة المطلوبة بهدف تلطيخ هذه الملفات وإيذاء مستقبل أصحابها، خصوصا عندما يكون من الصعب التخلص منهم مباشرة أو أن يترك ردود فعل مؤثرة. مثلا خلال الانتخابات الروسية تم نشر صورة مفبركة لناشط الإنترنت المعارض للرئيس بوتن (ألسكي نافالني) مع رجل الأعمال المنشق بوريس بيريزوفنسكي الهارب إلى بريطانيا للإيحاء بأن الأخير يدعم الناشط، وبالتالي محاولة خدش وطنيته أمام مواطنيه. وما لبث الخبراء حتى اكتشفوا اللعبة وصححوا المعلومات المغلوطة بأن الصورة مفبركة والرجل بريء.
وينشأ تعقيد القضايا ذات الأدلة المضللة في أنها تختلف في طريقة سير تحقيقاتها عن القضايا في الحالات العادية، ففي القضايا الطبيعية يفسر الشك لمصلحة المتهم، والبراءة هي الأصل واليقين ولا تتغير إلا بدليل يرقى إلى درجة اليقين نفسها. كما أن عمليات التحقيق فيها لكشف الملابسات تسير نحو هدف معرفة الحقيقة بكل شفافية وشمولية وعبر الطرق النظامية الواضحة، بينما في القضايا التي تصنع أدلتها في الدهاليز المظلمة، يكون هناك إجهاد للعقول لانتهاك الموضوعية وضياع الشفافية والدخول في نفق السرية والانحياز لطرف دون الآخر وحدوث تجاوزات للأنظمة والأخلاقيات وتفويت فرص الدفاع وافتقاد كل إجراءات الاستدلال والتحقيق. ثم يتم تحويل هذه الشكوك والأدلة المغلوطة المزورة إلى أدوات ضغط ومساومة قد تنتهي بثبيت الاتهام على الطرف الضعيف البريء ظلما وبهتانا ومعاقبته بدون استكمال ما يوجب العقوبة شرعا ونظاما. وحيث إن هذه الأدلة – غالبا – لا تتطابق مع بديهيات العقل والحكمة ولا تنسجم مع تسلسل المنطق المؤدي إلى النتيجة السليمة. لذا لا بد من القوة السياسية والنفوذ الباطش لدعم هذا التوجه اللاأخلاقي حتى لا يسمح لأي جهة بالتدقيق في مصداقية الأدلة واكتشاف سذاجتها وهشاشتها.