ألماني يبكي في قصور الناصرية

تعد قصور الناصرية من أجمل القصور التي بنيت في مدينة الرياض، وكان ذلك الموقع عبارة عن بساتين لابن ناصر اشتراها الملك سعود - رحمه الله - ليجعلها سكنا له ولزوجاته وأبنائه، وسماها الناصرية. تتصف الناصرية بخصوبة أرضها ووفرة المياه، وكانت مشهورة بالفواكه والتمور ومحاطة بسور يعد تحفة جمالية. قامت الدولة حديثاً بترميم تلك القصور الجميلة.
أحد العاملين في المشروع، التابع للهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض، ألماني الجنسية، بعد أن استقر رأي المهندسين على اجتثاث شجرة سدر عمرها أكثر من 50 عاماً، رفض الخبير الألماني بشدة أن تقتلع مثل تلك الأشجار، وقال للمهندسين: هل تعلمون أن عمر تلك الشجرة أكبر منا جميعاً، فكيف تسمح لكم أنفسكم بإزالتها؟ بالفعل.. غيروا بعض المسارات الهندسية حتى تبقى تلك الشجرة، التي أعطى وجودها مزيدا من الأصالة والجمال لتلك القصور الجميلة.
ألماني آخر من الفريق نفسه كان يتألم وعيناه تذرفان الدمع، فسألوه عن السبب، فقال كيف تضعون الإضاءة مباشرة على الشجرة، أنتم عكرتم دورتها التنفسية؟ تلك اللقطات المعبرة من هؤلاء الوافدين تحتاج منا إلى كثير من التأملات في واقعنا البيئي. الملاحظ أن غالبية مناطق المملكة وُجد فيها تلاشي الغطاء النباتي وتصحره، أكثره من عمل الإنسان، بسبب احتطاب جائر، أو تدمير جاهل للبيئة.
على النقيض من حرص الألمان على المحافظة على البيئة، لا يوجد لدينا، حتى الحد الأدنى من الثقافة البيئية. منذ عقدين ماضيين تحمس بعض الكتاب وراء معلومة غير موثقة، مفادها أن شجرة البرسوبسس قد تسبب الحساسية، حتى سماها بعضهم الشجرة الخبيثة! بناء على هذه الشائعة كانت هناك حملة اجتثاث متوحشة لتلك الشجرة، طالت الملايين منها. رغم حاجة بيئتنا القاسية إلى مثل تلك الشجرة التي لا تحتاج منا إلى صيانة أو ماء كثير، بل إن بعضها يعيش أكثر من ستة أشهر أو أكثر دون سقيا. المهم جداً في الموضوع أن الفريق البحثي الذي قام بدراسة حول تسبب البرسوبس للحساسية (وهو بحث مدعوم من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) لم يأت بنتيجة مقنعة، ولم تتضمن التوصيات اقتلاع تلك الشجيرات، إلا إذا كانت ملاصقة لمكيفات المنازل ونحوها. كما أثبت بعض الباحثين الزراعيين، أنه يمكن منع ظهور الأزهار التي قد تسبب الحساسية وذلك بتقليمها كل سنة. ظهرت هذه النتائج ببالغ الأسف بعد أن تم استئصال الشجرة، وليس قبلها!
لا يزال التشجير عندنا غير مجد اقتصادياً، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تصرف وزارة البلديات والكثير من الجهات أموالاً طائلة على زراعة النخيل في الشوارع. رغم أهمية النخلة، لكنها تزرع في المكان غير المناسب، فالشوارع مليئة بالتلوث البيئي، كما أن النخلة تحتاج إلى كمية مياه كبيرة وعناية خاصة إذا ما قورنت بشجر السدر والبرسوبس، والغاف والطلح. الأهم من ذلك كله أن نتاجها في ظروف كهذه، غير جيد، وفي غالب الأوقات لا يتم قطافها.
المشكلة الكبرى في بلدنا هي اللامبالاة، وعدم الرحمة في اقتلاع الأشجار، بينما في الكثير من دول العالم يحتاج الشخص إلى أخذ موافقة رسمية لاقتلاع أي شجرة، وما يزيد الطين بلة أننا لم نلحظ وجود خطط وطنية، شعبية أو رسمية، لزيادة المساحات الخضراء في المملكة.
من واقع ملاءمة نوع شجر البرسبوسس، الذي بعضه محلي ويسمى الغاف، أما الذي اشتهر فقد كان مستورداً من صحراء المكسيك، وكذلك شجر السدر والطلح وغيرها من النباتات التي تلائم البيئة السعودية ولا تحتاج إلى سقيا، كما هو حال مع النخلة وغيرها، أتمنى أن تكون هناك حملة وطنية لاستزراع 30 مليون شجرة من تلك الأشجار الصحراوية داخل المدن خلال عامين. هذه الحملة لو تمت، سنحصل في تمامها على غطاء أخضر يقلل من موجات الغبار وحرارة الشمس، كما أن لها جدوى اقتصادية في عدم استهلاكها للماء وسيستفاد أيضاً (منها) كمصدر للحطب: (الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي