فقه المصالح والموازنات

في ظل الأحداث المتسارعة وتغير أنماط الحياة بأشكال متجددة يعتبر فقه الموازنات أو فقه التعارض والترجيح من العلوم الأساسية الواجب معرفتها على كل متعلم لضبط أدوات التفكير والرياضة العقلية، وفهم طبائع الأشياء والواقع، وكذلك الفقه السياسي، لما إلى هذا العلم من حاجة ماسة في مختلف شؤون الحياة الإنسانية، وتجد أن هذا العلم يمارس بالفطرة من قبل الناس جميعاً في حياتهم المعيشية، للترجيح بين مصلحتين، أو بين مفسدتين، أو الموازنة بين المصالح والمفاسد، لكنهم - مع الأسف الشديد - لا يطبقونه على فهم النوازل الفقهية أو الواقعية أو التحليل السياسي.
وتشتد الضرورة لفقه الموازنات مع وجود المتغيرات المعاصرة التي تتطلب نظرة فاحصة للواقع، وما يكتنفه من تجاذبات خاصة في حالة انعدام النص الصريح، فكثيرا ما تتعارض أمام أهل الفقه وأهل الرأي المصلحة والمفسدة، أو المنافع بعضها مع بعض، أو المفاسد بعضها مع بعض، وعليه تم تأسيس هذا العلم، الذي هو خليط من علوم متنوعة أهمها علم أصول الفقه وعلم العقليات واللغات، ليضع أمام المعنيين من السياسيين والقضاة والخبراء القواعد الضابطة للوصول إلى المصلحة المرجوة عند تعارض الرأي سواء في النصوص الشرعية أو النظامية أو المسائل والقرارات العامة التي ترعى المصلحة العامة.

أقسام فقه الموازنات
يقسم فقه الموازنات إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
1-الموازنة بين المصالح
المصلحة في الاصطلاح كما عرفها الغزالي هي: طلب منفعة أو دفع مفسدة.. والمحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي: (الدين، النفس، النسل، العقل، والمال). فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
ومن الأدلة التي استنبط منها العلماء قاعدة الموازنة بين المصالح: قوله تعالى: ''وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ'' (البقرة: 219). فقدم القرآن الكريم مصلحة الإنفاق على العيال في حال عدم وفرة المال، على مصلحة الإنفاق على الفقير وهو أمر عقلي وفطري يعضده الرأي الشرعي والرأي الاجتماعي، وهي العادة الشفوية.

2- الموازنة بين المصالح والمفاسد
ومن الآيات الدالة على الموازنة بين المصالح والمفاسد قوله تعالى: ''يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا'' (البقرة: 219). ففي قوله تعالى: ''وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا''، دلالة واضحة على الموازنة بين المصالح والمفاسد.
وفي الحياة اليومية تغلب معرفة هذا النوع لكونه مقررا في طبائع الأشياء حيث يغلب معرفة المفسدة من المصلحة لكون التقارب بينهما والاشتباه بعيداً.

3- الموازنة بين المفاسد
ذكر القرآن الكريم قصة الخضر - عليه السلام - حين خرق السفينة وهي صالحة، فقد أحدث فيها مفسدة، ليدفع بها مفسدة أعظم، ألا وهي غصب السفينة من قبل الملك، فلولا هذا الخرق أو المفسدة لأخذها الملك، وضاع أهلها الذين يقتاتون بما رزقهم الله من دخلها، قال تعالى: ''أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا'' (الكهف: 79).
وفي هذه القصة دليل على جواز قصد إحداث مفسدة ما، لدفع أخرى راجحة، ولا يُعد ذلك من باب الخيانة للأمانة أو للأمة.
فكيف تكون الحال إذا فَرَضَ الواقع نفسه بضغط من الظروف كالاستعانة بالجيوش غير المسلمة لدفع عدو صائل، أو توقيع معاهدة سلام مع الأعداء والتنازل فيها عن بعض الحقوق، أو بالضغط من قبل الأعداء لتسليمهم بعض الرعايا المسلمين في ظروف خاصة حرجة. لا شك أن عمل مثل هذه الأمور في مثل هذه الأحوال القاهرة أولى بالجواز، لما سيترتب على عدم الاستجابة لهذه الضغوط من مفاسد كبيرة تهدد أحياناً وجود الدولة.
إن فقه الموازنة عمل دقيق، تكتنفه مخاطر عدة؛ لذا فهو يحتاج إلى فقيه فطن وخبير متوازن الشخصية، متمكن من علوم الشرع، مستبصر بواقع الحال، مدرك لمآلات الأفعال وآثارها.
يقول ابن تيمية: ''باب التعارض باب واسع جداً، خاصة في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون للسيئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبيَّن لهم، فلا يجدون من يعينهم للعمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء''.
وقبل أن نذكر وجوه الترجيح وموجِّهات الموازنة فلا بد أن ننبه هنا إلى أن المعيار الصحيح لإدراك المصالح والفاسد هو الكتاب والسنة، وهذا أمر تدركه الفطر السليمة، والعقول الصحيحة؛ ولذا فالمعتبَر في معرفة المصلحة هو النص الشرعي، فإن الشرع لا يهمل مصالح العباد.
ومن المصالح والمفاسد ما يكون الترجيح بينهما بالتقريب؛ لأنها (لا وقوف على مقاديرها وتحديدها)، وبذلك فهي من موارد الاجتهاد التي يختلف فيها النظر بين المجتهدين، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد.
إلا أن المطلوب من الناظر عند الموازنة أن يستوفي النظر، غير غافل عن أي وصف مؤثر. يقول ابن تيمية: (الورع المشروع هو أداء الواجب وترك المحرَّم، وليس هو ترك المحرم فقط.. ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل من كراهة توجب تركه ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر توجب فعله''.
وسبب ذلك أن من الناس من ينظر للفساد الموجود في الفعل والذي يحمله على تركه، ولا ينظر إلى ما يعارض من المصلحة الراجحة.
والمطلوب من الناظر ألا يغفل عن أي وصف للحال أو المآل، ويتحرى الصواب، مع الاستشارة؛ فإن الصواب قد يظهر لقوم ويغيب عن آخرين، وينبذ الهوى فإن في اتباعه مضادة للصواب، ويستعمل الإخلاص وحُسْنَ القصد وسلامة القلب فإن الموازنة مذلة قوم، ومدحضة فهم، وكثيراً ما يقع فيه الاختلاط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي