التنمية ليست امرأة ورجلاً

كنت قد كتبت هنا مقالة بعنوان ''تأنيث التنمية، قال لي البعض إنني أطرح خياراً اقتصادياً مكلفاً سيجعل من كل جهة جهتين، وهذا ازدواجٌ في المؤسسة الإدارية له تكاليفه في المال وفي تعقيد الإجراءات. ومع أنني لم أشر إلى الحيثية التي يمكن من خلالها تأنيث التنمية بجعلها فاعلة في كل المهن والتخصّصات، إلا أن ذلك ممكن جداً بدليل النموذج السائد في وجود المرأة والرجل في المستشفيات، ثم لأنني على يقين أن تلك قضية يحلها الحسم الإداري في قوانينه متى شاء وكيف شاء، وتاريخنا المحلي يمدنا بشواهد مفصلية في هذا الاتجاه، أبرزها ''تعليم المرأة''، فقد وقفت فئات ضدّه بصرامة وقاطعته لعام أو عامين، لكن المُضي في إنفاذ قرار افتتاح مدارس للبنات جعل حتى أولئك المقاطعين يهرولون لإلحاق بناتهم بها على شدة وصرامة ممانعتهم السابقة له.
وليست السجالية الحامية الوطيس في مسألة ''تأنيث المحال النسائية'' والرضوخ لإنقاذها سوى إحالة لممانعة تعليم المرأة وتكرّرت في إشراك النساء في عضوية مجلس الشورى ثم وقوفهن في كاشيرات الأسواق الكبرى وكاونترات المطارات. غير أن حرف الحديث عن التنمية إلى ''رجل وامرأة'' ليس سوى هروب من مواجهة معنى التنمية نفسها بعقليات ذكورية ترى التنمية أشبه بنبات فطري كـ ''الفقع'' يطلع مع المطر وأن التنمية مثله مصدرها المال ليس إلا.
وإنه لمن البائس أن يزج بنا الحديث عن المستقبل ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين للحديث عن الماضي؛ للتذكير بأنه لم يكن هناك من تحسُّس ضدّ عمل المرأة حاطبة، فلاحة، دلالة، معلمة، ''مطوعة''، وعاملة دون شعور بالدونية أو ما يعكر الكرامة في البيوت والأعراس؛ لأن ''دورة العيشة'' التي نسميها بمصطلحات التنمية البشرية اليوم ''فرص العمل'' كانت هي معيار الاستقامة والكرامة والمكانة في زمن كان فيه (مَن يفك الحرف) علماً يُشار إليه بالبنان!!
لا يعارض غلاة الممانعين لعمل المرأة فقط من باب صراع ''الذكورة والأنوثة'' بدليل الرضوخ لنفاذ ما أشرنا إليه من قرارات، ما يعني أن اختزال التنمية في سجال عمل الرجل والمرأة، يخفي في الواقع وراءه قناعة مغلوطة في النظر إلى أن التنمية (مال) توفره الدولة من البترول وسواه وكفى .. في إزاحة لا شعورية (أو شعورية!!) للعمل نفسه وقيمته ومعناه ودوره الجوهري في خلق التنمية، وحين يصبح (المال) هو التنمية، خصوصا في نظر الممانعين لعمل المرأة الذين هم في الغالب بضاعتهم اللاعمل (علام!!) فإن الحاجة تتقزم إلى العمل (الحقيقي) ليصبح مجرد (وظيفة) تتكفل فقط بالمال والمكانة مقابل الذهاب للمكتب والمجيء منه، ما يمنحانه سلطة للتحكم في المرأة نفسها وليس إنتاج قيمة اقتصادية مضافة أو قيم معرفية علمية.
لقد حجب النظر إلى التنمية على أنها (مال) المعنى المعنوي السيكولوجي الكريم لإنتاج المال نفسه، بعدم المسؤولية عن إنتاجه على أساس أن الدولة هي المسؤولة عن ''تدبيره'' الأمر الذي كرس السجال حول تأطير عمل المرأة، ما ينبغي أن تعمله وأين وكيف وبما يضع في يدها بعض (المال) فقط لا أن يمنحها مكانة تتحول إلى قوة عمل مؤثرة، وما هذا التأطير في الحقيقة سوى مناورات ذكورية لتبرير التقاعس والنكوص الذكوري عن القيام بـ ''عمل حقيقي''، لذلك يريد الممانعون للمرأة أيضاً أن تكون أجيرة بمال وليس قوة عمل منتجة، وبالتالي فالضحية الفعلية في هذه الحرب هو العمل المهدر دمه بالتملص منه تحت مزاعم الخشية على المرأة أو منها لأنها حين تعمل تصبح وحدة إنتاجية اقتصادية لها كيانيتها المنافسة للرجل الممانع الهارب أصلا من العمل.. وما هذا الضجيج إلا استراتيجية تلبس أقنعة القيم والعادات والتقاليد لإخفاء ذكورية تريد أن تستأثر بالمال والمكانة ولو في بطالة مقنعة عن العمل الحقيقي نفسه .. وهكذا فالتنمية ليست رجلا وامرأة وإنما عمل ولا شيء سواه .. فهو الذي يسك عملة التنمية بذكوريتها وأنوثتها .. وهل من عملة دون وجهين؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي