أكبر من أن يساقوا إلى السجن

من بين المبادئ الأساسية في أي نظام قضائي قائم بوظيفته ما يلي: لا تكذب على قاض أو تزور وثيقة مقدمة إلى محكمة، وإلا فإن مصيرك إلى السجن. والحنث باليمين على قول الصدق يُعَد شهادة زور، والكذب في وثيقة رسمية يُعَد شهادة زور واحتيال. وهي جريمة خطيرة، ولكن من الواضح أن هذا لن ينطبق عليك إذا كنت قلب النظام المالي الأمريكي. فعلى العكس من ذلك، يبدو أن الأفراد من ذوي الأهمية الأساسية في هذا النظام يحصلون على تعويضات سخية عن الجرائم التي يرتكبونها.
وكما زعم دينيس كيليهر من مؤسسة أسواق أفضل فإن التسوية الأخيرة التي أطلق عليها وصف ''التوقيع الآلي'' ــ حيث وافقت خمسة بنوك كبرى على ''تسوية'' مسؤوليتها القانونية عن تنفيذ عمليات حبس رهن احتيالية ــ تُعَد بيعاً كاملاً للصناعة المالية.
فأولا، لم يشتمل الأمر على أي ملاحقة قضائية جادة ــ وهذا يعني أن لا أحد سيوجه إليه الاتهام بارتكاب أي جنية، ولا أحد سيذهب إلى السجن. ومن ناحية التأثير على حوافز المديرين التنفيذيين، فإن هذا هو الشيء الوحيد المهم في الأمر.
وحتى المصطلحات التي استخدمت لتأطير المناقشة كانت خاطئة. وعلى حد تعبير كيليهر، المحامي الذي يتمتع بخبرة واسعة في الممارسة الخاصة والقطاع العام: ''إن التوقيع الآلي سلوك احتيالي إجرامي منظم''. وبوسعنا بدلاً من ذلك، كما يشير كيليهر، أن نعتبر الأمر ''كذباً وغشاً وسرقة''.
وثانيا، كانت العقوبات المدنية في هذه التسوية ــ شكل من أشكال الغرامة ــ ضئيلة نسبة إلى حجم الشركات المتورطة في الأمر. وكما قال بجفاف شاهين ناسيريبور أحد أفضل الصحافيين الذين غطوا هذه القضية: ''لا أحد من المقرضين الخمسة ذكر أنه كان يتوقع تحمل رسوم مادية نتيجة للتسوية''. أو بعبارة أخرى، تشكل العقوبة من منظور الشركات شأناً تافها.
وثالثا، تُدفَع مثل هذه الغرامات في كل الأحوال من قِبَل حاملي أسهم الشركة، وليس بواسطة مديريها التنفيذيين أو أعضاء مجلس الإدارة (وجميعهم مؤمن عليهم). وفي حالات نادرة حيث فُرِضَت الغرامات على أفراد، فإما أن وثائق التأمين عليهم تحملت أغلب الغرامة، أو أن العقوبات كانت تافهة نسبة إلى التعويضات النقدية التي يحصلون عليها في حين يرتكبون جرائمهم ــ أو كلا الأمرين.
والواقع أن التسوية التي أقرتها إدارة أوباما مع مقرضي الرهن العقاري تتوافق مع سجلها فيما يتصل بكل سياساتها المتصلة بالقطاع المالي، والذي كان رديئاً للغاية. ولكنها تسوية محيرة أيضا، فما الذي قد يحمل الإدارة على الاستمرار في تساهلها العجيب في التعامل مع البنوك الكبرى في ظل هذه الظروف؟
وعلى المحك فيما يتصل بتسوية الرهن العقاري هناك انتهاكات جوهرية ومنهجية لسيادة القانون ــ شهادة الزور والاحتيال على مستوى الاقتصاد بالكامل. ولا شك أن وزارة العدل تملك كل السلطة اللازمة لملاحقة هذه الجرائم المزعومة قضائياً حتى النهاية. ورغم هذا فإن كبار المسؤولين عن فرض القانون في أمريكا كانوا يتراجعون عادة ــ والآن بشكل كامل.
ومن الواضح أن الدافع الرئيسي وراء تساهل الإدارة الأمريكية مع هذا النوع الخطير من الإجرام يتلخص في الخوف من العواقب التي قد تترتب على اتخاذ تدابير صارمة ضد البنوك الفردية. وربما كان المسؤولون محقين في خوفهم هذا، نظراً لحجم البنوك المعنية الهائل نسبة إلى الاقتصاد. بل إن هذه البنوك أصبحت الآن أضخم مما كانت عليه قبل الأزمة. وكما أثبتنا بالوثائق أنا وجيمس كواك في كتابنا ''13 مصرفيا''، فإن هذه البنوك الآن أضخم مما كانت عليه قبل 20 عاما.
إن كبار المصرفيين يريدون تكديس المال. وهم يريدون أيضاً أن يظلوا خارج السجن. وبوسع الساسة إثارة أعظم قدر من الضجيج، ولكن في غياب أي تهديد حقيقي بالفقر أو السجن، فإن المصرفيين ليس لديهم من الأسباب ما قد يدعوهم إلى الالتزام بالقانون. ففي نظرهم يدور الأمر برمته حول التجارة ــ وقد يقع المرء فريسة لبلاهته في السياسة العامة بنفس القدر من السهولة التي قد يقع بها فريسة لبلاهته في اتفاقية قرض فردي.
إن الرسالة الموجهة إلى المسؤولين التنفيذيين عن البنوك اليوم بسيطة: أسسوا بنوككم بحيث تكون كبيرة قدر الإمكان ــ ثم استمروا في تضخيمها. وإذا تمكنتم من بلوغ القدر الكافي من الضخامة، فإنكم أنتم والعاملون لديكم لن تصبحوا أضخم من أن يسمح لكم بالإفلاس فحسب، بل وأضخم من أن تساقوا إلى السجن.
ويبدو أن إدارة أوباما جعلت من الآخرين كلهم مجموعة من البلهاء.

خاص بـ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي