كيف يحدث هذا الذي نريد حدوثه؟!
إذا كان وزير البترول الدكتور علي النعيمي قد صرح قبل أيام: أنه من غير المناسب الاعتماد على البترول إنتاجاً وتصديراً كأساس للدخل الوطني ولتنمية اقتصادية مستدامة، ومن الأفضل استخدام عوائد البترول أو منتجاته من أجل إيجاد مصادر أخرى للنمو والازدهار الاقتصادي.. وأن يقول ذلك انطلاقاً من أن البترول عُرضة للتقلبات في السعر والإنتاج وآخذاً في الاعتبار نمواً سكانياً كبيراً يتوقع بلوغه 30 مليون نسمة بعد 20 عاماً.
وإذا كان الدكتور محمد الجاسر وزير الاقتصاد والتخطيط، قد حدّد في حفل تكريمه في مؤسسة النقد العربي السعودي خمس أولويات ستعمل عليها الوزارة في المرحلة المقبلة، هي: تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد بدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وزيادة فرص عوامل الإنتاج البشرية والمادية، وزيادة الفرص الوظيفية للمواطنين، وتطوير النظم والأدوات التحليلية والمعلوماتية، وتوطيد مكانة المملكة في الاقتصاد الدولي.
فإني لا أظنه بخاف أن ما قاله الوزيران وجهان لعملة واحدة هي التنمية أو تمويل التنمية بشكل محدّد.. ومع أن هذه الإشكالية كانت فاقعة اللون منذ عقود وحفلت بالإشارة إليها وثائق خطط التنمية المتعاقبة والندوات والمؤتمرات وأدبيات تنميتنا الوطنية بشكل عام، وضرب الخبراء والبحاث والدارسون والكتاب، الأمثلة (حتى تورمت جلودها!!) بماليزيا، سنغافورة، الصين، الهند، والبرازيل.. ونجاحها في التنويع الاقتصادي وخلق بنية صناعية تقنية منافسة، إلا أن جهداً جسوراً حقيقياً مكثفاً في تنميتنا لم يُبذل في هذا الاتجاه سوى ما له علاقة بصناعة البترول والغاز ومشتقاتهما من الصناعات البتروكيماوية أو صناعات أخرى كالحديد والأسمنت فيما السواد العام من النشاط التنموي استهلاكي أو خدمي.. وحتما هناك أسباب هيكلية وفنية وإدارية واجتماعية وظروف خارجية يمكن تعليق عدم إنجاز ما كان محتماً إنجازه على مشاجبها، إنما حسبنا اليوم أن نعتصم بالحكمة المربكة: خير لك أن تأتي متأخراً من ألا تأتي!!
لذا فإن كلمات الدكتور النعيمي وقبلها "أولويات" الدكتور الجاسر ليستا إلا مكاشفة على صراط بات من الضرورة السير عليه.. فالتحولات الكبرى التي يشهدها العالم في أشكال الحياة وتخليقات التطور العلمي والتقني والصياغات الاجتماعية لإدارة البشر والاقتصاد والثروة، وما يحدث من اختراقات مذهلة في الطاقة وانفجار المعارف وأنماط الإنتاج هي تحولات لم يعد يسعف معها وقت كي يُضاع؟ إنما: كيف يمكن له أن يحدث هذا الذي نريد حدوثه؟ لنعبر برزخ تنمية أسرفت على نفسها بالاعتماد على البترول إلى تنمية تندلع من قاعدة إنتاجية عريضة عميقة متنوعة "نحرق" فيها المراحل في زمن ليس لاهثاً فقط وإنما "ذكي" بسرعة البرق؟!
لا أتعمد هنا طرح "أحجية" أو "لغز".. وإن كنت أحسب المسألة أشبه بذلك.. خصوصاً حين يكون الاستثمار الأجنبي الذي أقمنا من أجله هيئة موقرة، ثابرت على عقد مؤتمرات تنافسية سنوية.. ومع ذلك فما أكثر ما فيه من دكاكين النطيحة والمتردية وما أكل السبع وانفتاح باب جديد "للاستقدام وما أقل النوعي منه!!". ودعك من وعود الوظائف بمئات الآلاف؟!
لقد فتحت الدولة خزائن مال سخي للإنفاق.. وهطل الخبراء والمستشارون وأصحاب الشركات والمقاولون والمستثمرون من كل اللكنات والسحنات.. ومع ذلك، أو قل بسببه.. ظل حجم الاستيراد يتضاعف والاستهلاك يتفاقم، أما صادراتنا فقد بقيت تزداد شحماً وليس لحماً؛ نسبة الصادرات النوعية غير النفطية متواضعة لا تدل على أن الاستثمار انجذب إليها بقدر ما أسال لعابه التجاري والسهل واليسير والعابر!!
لا ينحاز هذا الحديث إلى الجحود والنكران، فالتنمية في بلادنا أدارت فعلاً دفة التاريخ من العسر إلى اليسر وصعدت بها من هامد الدهر إلى صدارة العصر عضواً مؤثراً في المحافل والمنظمات والهيئات الإقليمية والدولية.. غير أنه إذا كان النفط قد استولد هذه التنمية الرحبة، فلا شك في أن الوقت كان قد حان منذ سنوات لكي تستولد التنمية نفطها بتحويل الثروة إلى أصول إنتاجية لا تنضب ولا تضارب عليها مصالح الدول وتقلبات الزمن. ولذلك سيظل غموض الصورة قاتماً: إنفاق سخي وحصاد لم يصعد إلى معارج الطموح .. وبالتالي يبقى السؤال كما كان متشبثا بمكانه: كيف يمكن له أن يحدث هذا الذي نريد حدوثه؟ وأن أدفع بالسؤال هذه المرة إلى المجلس الاقتصادي الأعلى!!