الوطن.. حراك معرفي يُؤكد «مسؤولية الإنسان»

تقوم المنظمات الدولية ''بتقييم الأوطان'' حول العالم بمعايير مُختلفة على رأسها معيار ''التنمية''. والمقصود بالتنمية ليس فقط التنمية الاقتصادية، بل التنمية الاجتماعية والإنسانية أيضاً؛ وهدف هذه التنمية هو ''الإنسان'' وحياته وسعادته. ولا شك أن التنمية الاقتصادية، المادية الطابع، لا تتحقق بفاعلية واستدامة ما لم تترافق مع تنمية شاملة للمُجتمع والإنسان. وليست غاية التنمية الاقتصادية المطلوبة هي زيادة الدخل فقط، بل إنها تسعى إلى مُشاركة الجميع وتوظيفهم في صنع هذه الزيادة، وكذلك في الشراكة في مُعطياتها. فالإنسان ليس هدف التنمية فقط، بل هو صانعها و''المسؤول عنها'' أيضاً.
وترتبط قدرة الإنسان على صناعة التنمية ''بإمكاناته المعرفية'' من ناحية، و''بسلوكه'' في تفعيل هذه الإمكانات وإدارتها من ناحية ثانية. ''فالمعرفة قوة''، وهي بمثابة دم الحياة في هذا العصر؛ وهي ليست معلومات مُتوافرة ومُتبادلة فقط، وليست مبادئ وضوابط أخلاقية فقط، بل هي أيضاً استيعاب وفهم وعطاء معرفي، أي ما يُقدمه ''تفكير الإنسان'' والعمليات الإدراكية التي أهّله الله ـ عز وجل ـ للقيام بها. و''سلوك الإنسان'' وتعامله مع ما يُحيط به ''ثقافة'' ينبغي الاهتمام بها، فهي التي تُعزز توجه الإنسان نحو تفعيل إمكاناته والسعي إلى العطاء والإسهام في صناعة التنمية. ولا شك أن تحفيز التفاعل بين المعرفة والثقافة يُمكن أن يُعطينا ''ثقافة معرفية'' تُفعل دور المعرفة في سلوك الإنسان، وتُعزز ''مسيرة التنمية'' المنشودة.
على أساس ما سبق نجد أن ''الإنسان''، هدف ''التنمية''، يحتاج إلى ''نهج ثقافي معرفي'' يتبنى سلوكاً قويماً ينطلق من واقعه، ويهتم بحقائق العصر، ويعتمد على التفكير والإدراك والعطاء المعرفي، كي يكون هو أيضاً ''صانع هذه التنمية''. ولعله لا بُد من الإشارة هنا إلى أن ''سلوك الإنسان'' ليس قضية فردية فقط، بل إنها ''قضية عامة'' أيضاً، فللإنسان دور في أسرته، وآخر في مُجتمعه، وثالث في عمله ومُمارسته المهنية، ورابع في وطنه، وربما خامس على مستوى العالم. وفي ذلك تكمن أهمية ثقافة الإنسان وتفاعلها المعرفي ودورها في تعزيز ''أداء الوطن'' والارتقاء بمكانته بين الأمم.
وإذا نظرنا إلى ما يجري في الوطن اليوم نجد أن هُناك ''حراكاً معرفياً'' غير مسبوق. فأعداد الجامعات والكليات الجامعية تشهد تزايداً متواصلاً، وكذلك أعداد الطلاب والطالبات داخل المملكة، وأعداد المُبتعثين والمُبتعثات للدراسة في جامعات دول مُختلفة من العالم. ولا شك أن لهذه الحركة المعرفية تكاليفَ كبيرة، لكنها في حقيقة الأمر ''استثمار في الإنسان'' يُرجى منه جعله المصدر الأول لصناعة التنمية في المُستقبل، بما يُؤدي إلى الحد من الاعتماد على النفط والموارد الطبيعية، المتوافرة حالياً، ولكن القابلة للنضوب على المدى البعيد. وهذه القضية، بلا شك، هي القضية المُستقبلية الرئيسة التي تهم الجميع لأن فيها مُستقبل الأبناء والأحفاد ومن سيأتي بعدهم، ولا بُد من توفير كُل ''عوامل النجاح'' اللازمة لها.
في إطار ما سبق، تجدر مُلاحظة أن الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للتنمية الاقتصادية لعدة عقود من الزمن قد أفرز ثقافة حدت من أهمية ''مسؤولية الإنسان'' عن صناعة التنمية بنفسه. ولا شك أن الحركة المعرفية القائمة، والتوجه نحو المزيد من الاعتماد على المعرفة، قد بدأ يضع بصمات جديدة تزيد مستوى إدراك هذه المسؤولية. لكن الحرص على نجاح الاستثمار في المعرفة يقضي بأن نسعى إلى الاهتمام ببناء أو ربما ترسيخ ''ثقافة المعرفة'' وسلوك الإنسان، ليس فقط على مستوى مناهج التعليم في مدارسنا وجامعاتنا فقط، بل على مستوى المُجتمع بأسره ومُؤسساته المُختلفة أيضاً. ولعلنا نطرح فيما يلي ما نقصده ببناء هذه الثقافة، وما نقترحه في سبيل تحقيق ذلك.
في إلقاء الضوء على ثقافة المعرفة، يُمكن البدء بطرح النشاطات التي يقوم بها الإنسان في ''تعامله مع المعرفة''. هذه النشاطات ثلاثة، وتتضمن: ''استيعاب المعرفة وإنتاجها'' بالتفكير والإبداع والابتكار؛ و''حفظها ونقلها والشراكة فيها'' بالنشر والإعلام والتعليم والتدريب؛ و''توظيفها على أرض الواقع'' والاستفادة من مُعطياتها بالشراكة المعرفية بين أصحاب العلاقة والتفاعل مع مُتطلبات المُجتمع ومُؤسساته المُختلفة. والمطلوب أن تتصف هذه النشاطات بالتكامل بمعنى التوجه نحو المعرفة الفاعلة المُفيدة: استيعاباً وإنتاجاً، وحفظاً ونشراً، وتطبيقاً وتوظيفاً أيضاً. فالمعرفة تبقى كامنة، وكأنها غير موجودة، ما لم توضع موضع التنفيذ، فالتنفيذ هو الذي ''يجعلها حية'' وقادرة على العطاء وعلى تعزيز التنمية المنشودة. ولعله من المُناسب، في هذا المجال، تقديم بعض الأمثلة. فتوظيف الإنسان للمعرفة الصحية يُعطي ''تنمية إنسانية''؛ وتطبيقه للمعرفة القانونية لأنظمة المرور يُقدم ''فوائد اجتماعية''؛ كما أن توظيفه للأفكار المُبتكرة التي تُؤدي إلى مُنتجات أو خدمات جديدة أو مُتجددة يقود إلى ''عطاء اقتصادي''. ولا شك أن مثل هذا التوظيف المحمود، على نطاق واسع، يُعطينا ''التنمية المنشودة الشاملة'' التي تتكامل فيها الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في بنية تنموية راسخة نحتاج إليها.
ولعل هناك من يتساءل هنا عن مُتطلبات تحقيق تكامل النشاطات المعرفية الثلاثة والاستفادة منها. في هذا المجال، هُناك ستة ''مبادئ معرفية'' ينبغي الاهتمام بها وتحفيزها لدى الإنسان أينما كان. بين هذه المبادئ ''الحماس المعرفي'' للتعلم والتفكير واستيعاب المعرفة والتفكر والتدبر فيها، بل وتطويرها. وبين هذه المبادئ أيضاً، ''الشراكة المعرفية'' بين جميع أصحاب العلاقة في أي قضية مطروحة، فهذه الشراكة هي مصدر مهم للعطاء المعرفي والتطوير، لأنها تجمع الخبرات في إطار تفاعلي مُنتج، يحتاج إلى روح إيجابية من قبل جميع المُشاركين فيه.
ثُم هناك مبدأ ''الجاهزية المعرفية''، حيث تكون المعرفة المطلوبة مُتوافرة في الوقت المُناسب والمكان المُناسب، ويتطلب ذلك المُتابعة والتوثيق، بل والتقييم والقياس أيضاً. وهناك كذلك مبدأ ''توخي التميز'' في الكفاءة والفاعلية والحكمة وجودة المُعطيات. ويأتي بعد ذلك مبدأ ''استخدام الوسائل والوسائط'' المُناسبة، بما في ذلك أفضل الأساليب والمنهجيات، وأحدث التقنيات المُتقدمة، من أجل تعزيز دور المعرفة في حياة الإنسان والمُجتمع ومُؤسساته المُختلفة. وهناك أخيراً، وليس آخراً مبدأ ''المسؤولية'' ليس على المستوى الشخصي فقط، بل في الإطار الاجتماعي والإنساني، بما يشمل المستوى الوطني والمستوى العالمي أيضاً.
يُبين ما سبق أن مُتطلبات بناء ''ثقافة معرفية تُسهم في تفعيل التنمية'' تقضي بتعزيز الدور المعرفي للإنسان من خلال تحفيزه على الحرص على ''تكامل النشاطات المعرفية'' الثلاثة والاستفادة من مُعطياتها، وعبر تشجيعه على ''تطبيق المبادئ المعرفية'' الستة، سابقة الذكر؛ على أن يشمل ذلك جميع مستويات حياته الشخصية والعامة. وفي هذا المجال، يبرز تساؤل مهم يطرح مسؤولية بناء هذه الثقافة، وكيفية العمل على وضعها موضع التنفيذ.
لا شك أن المسؤولية الأولى عن بناء ثقافة المعرفة تقع على عاتق ''المُؤسسات المعرفية''، وتشمل: المُؤسسات التعليمية، ومُؤسسات التوعية والإعلام والنشر، الورقي منه والإلكتروني، من جهة؛ وعلى عاتق ''المُؤسسات الموظفة للمعرفة''، وتتضمن مُؤسسات اقتصادية، إنتاجية وخدمية، ومُؤسسات حكومية، وربما مُؤسسات خيرية غير ربحية من جهة أخرى. فالمُؤسسات التعليمية تستطيع أن تطرح ثقافة المعرفة في مناهجها التعليمية، وفي أساليبها التربوية أيضاً. كما أن مُؤسسات التوعية والإعلام والنشر يُمكن أن تُحفز وتُشجع الروح المعرفية في الإنسان، من خلال ما تطرحه وتبثه وتعرضه من معلومات في صفحاتها وبرامجها المُختلفة. وتستطيع المُؤسسات الموظفة للمعرفة أن تجعل ثقافة المعرفة جزءاً من ثقافة العمل والإنجاز لديها. ومن أجل بناء ثقافة المعرفة والاستفادة منها على المستوى الوطني، تحتاج المُؤسسات سابقة الذكر، إلى ''سياسات معرفية مُشتركة'' أو عامة على المستوى الوطني من جهة؛ و''سياسات معرفية خاصة'' على مستوى أعمالها ونشاطاتها من جهة أخرى. وتعمل هذه السياسات، كُل في مجالها، على تحقيق التنمية التي تستهدف الإنسان، والتي يصنعها الإنسان. ففي ذلك تعزيز لتوظيف المهارات البشرية والاستفادة منها، وزيادة للدخل وتوليد للثروة. ولعل للجامعات دوراً مُؤثراً في هذا المجال، ففي كثير من الجامعات الأجنبية العالمية ''معاهد مُتخصصة''، في وضع السياسات العامة والخاصة، تحتوي على برامج للدراسات العليا تقوم بتأهيل أصحاب التخصصات المُختلفة في السياسات المُرتبطة بهذه التخصصات، وتفعيل دورهم المعرفي في المُجتمع.
ولعلنا في الختام نتذكر أن ''ثقافتنا الإسلامية'' تدعو إلى المعرفة، وإلى تحفيز التفكير والحكمة في شؤون الحياة. ولنا في هذا المجال أن نتفكر في الآية الكريمة التي تقول ''ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكر إلا أولو الألباب (سورة البقرة 269)'' صدق الله العظيم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي