المكتبات العامة.. بنية تحتية خفية تدفع عجلة الاقتصاد

عندما تُطرح الأسئلة الكبرى حول مستقبل الاقتصاد، وكيفية بناء مجتمعات منتجة تُضيق الفجوة بين المعرفة والفرصة، نادرًا ما يُذكر دور المكتبات العامة. ومع ذلك، تُعد المكتبات من أكثر المؤسسات العامة تأثيرا في حياة الأفراد واقتصاداتهم، رغم أن أثرها عادةً ما يظل غير مرئي في النقاشات الاقتصادية والسياسات العامة.

فالمكتبة الحديثة لم تعد مجرد رفوف تحتضن الكتب، بل أصبحت بنية معرفية وخدمية متكاملة، تؤدي أدوارًا متقدمة تشمل التعليم المستمر، ودعم ريادة الأعمال، وتعزيز المهارات الرقمية، وتوفير مساحات للبحث والابتكار.

في عديد من المدن، تُشكل المكتبة العامة نقطة الانطلاق الأولى لمن يسعى إلى تطوير مهاراته، أو دخول سوق العمل، أو تحويل فكرة أولية إلى مشروع منتج. هذا التعدد في الوظائف لا يجعل من المكتبة مجرد مساحة ثقافية، بل فاعلًا اقتصاديًا مؤثرًا يسهم في تحريك عجلة النمو من القاعدة.

وتبرز التجربة البريطانية مثالًا واضحًا على هذا الدور، حيث نجحت "مراكز الأعمال والملكية الفكرية"، المدمجة ضمن المكتبات العامة، في دعم أكثر من 18,000 مشروع جديد خلال 3 سنوات فقط، وأسهمت في خلق آلاف الوظائف المستدامة. وقد استفادت من هذه الخدمات فئات عادةً ما تُهمّش في منظومات الدعم التقليدية، كالمهاجرين، والنساء، والشباب من المجتمعات الأقل حظًا، فيما تشير الدراسات إلى أن كل جنيه يُستثمر في هذه المراكز يحقق عائدًا اقتصادياً يقدّر بـ6 أضعاف، وهي نسب نادرة في برامج التنمية التقليدية.

أما في الولايات المتحدة، فتُؤدي مكتبة الكونجرس دورًا مختلفًا لا يقل أهمية، إذ تُعد المرجع المعرفي والتشريعي الأول في البلاد، وتُوفر قاعدة بيانات ضخمة يعتمد عليها المشرعون والباحثون وصناع السياسات في اتخاذ قرارات مبنية على الأدلة والمعرفة الدقيقة. هذا المستوى من التنظيم والدقة يعزز من كفاءة السياسات العامة، ويُمكّن المؤسسات من التعامل بفاعلية مع تحديات معقدة ومتداخلة. وعلى المستوى المحلي، تظهر أمثلة مماثلة تبرز القيمة الاقتصادية المباشرة للمكتبات العامة، ففي ولاية ويسكونسن الأمريكية مثلًا، تُقدّر المساهمة الاقتصادية للمكتبات بأكثر من 750 مليون دولار سنويًا، من خلال ما تقدمه من تدريب مهني، وخدمات سوقية، وورش عمل، ومشورة مهنية وابتكارية.

لكن ما يُميز هذه النماذج الناجحة لا يقتصر على البنية التحتية أو الموارد التقنية، بل يكمن في عنصر عادةً ما يُغفل في تقييم الجدوى الاقتصادية: الثقة المجتمعية. فالمكتبة العامة تُدرَك شعبيًا كمكان مجاني، محايد، وآمن، يلجأ إليه الناس دون خوف أو تمييز، بحثًا عن بداية جديدة، أو فرصة تعليم، أو تطوير ذاتي. هذا الاندماج بين المعرفة والكرامة والانفتاح هو ما يجعل المكتبة محركًا اقتصاديًا من طراز خاص، محركًا يستثمر في الإنسان قبل رأس المال، ويُعيد صياغة مفهوم الاستثمار من زاوية اجتماعية وتنموية.

مع ذلك، فإن استمرار هذا الدور وتحقيقه على نطاق أوسع لا يمكن أن يكون عفويًا، بل يتطلب دمجًا صريحًا للمكتبات العامة ضمن السياسات الاقتصادية الوطنية، وتمويلًا مستدامًا، ورؤية مؤسسية تُدرك أن هذه المؤسسات ليست مكمّلات ثقافية، بل أصولًا اقتصادية معرفية يجب الحفاظ عليها. وفي عالم تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتعمق فيه الفجوات المعرفية، تصبح المكتبات أداة لا غنى عنها لتعزيز الشمول الاقتصادي، والحد من الإقصاء الرقمي، وتوسيع دائرة الوصول إلى الفرص.

هذا الفهم يتجلى في الجهود الدولية كذلك، إذ تؤكد منظمة اليونسكو في "ميثاق المكتبات العامة" على دور المكتبات كدعامة رئيسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخصوصا الهدف الرابع المتعلق بالتعليم الجيد، والهدف الثامن المتعلق بالنمو الاقتصادي والعمل اللائق. فالمكتبة لم تعد مجرد مساحة للتعلّم، بل وسيلة للعدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقدرة على تحفيز التنمية الشاملة.

إن الاستثمار في المكتبات اليوم هو استثمار في بنية تحتية ناعمة لكنها عميقة التأثير. فبعيدًا عن كونها ترفًا ثقافيًا، تمثل المكتبات ركيزة إستراتيجية لبناء اقتصاد أكثر توازنًا، وعدالة، واستدامة. ومن هنا، فإن إعادة التفكير في دورها، وتضمينها في قلب الرؤية التنموية الوطنية، لم يعد خيارًا هامشيًا، بل ضرورة ملحّة لصياغة مستقبل اقتصادي يرتكز على المعرفة ويستثمر في الإنسان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي