ثقافة العمل وأخلاقياته (3)

تحدثت في الجزء الثاني من هذه المقالة عن المتوالية المنطقية بالضبط في ماليزيا خلال العشرين عاما الأخيرة، حيث تضاعفت الرواتب والأجور عدة مرات كنتيجة طبيعية لزيادة الإنتاج والتصدير الذي تجاوز الــ ‏90‏ مليار دولار‏!‏ ثم هل كان سر المعجزة اليابانية أكثر من تجذر ثقافة العمل والانضباط والتفاني والإتقان في عقول اليابانيين ووجدانهم‏.‏ أليست عناصر الإنتاج، كما تعلَّمناها في علم الاقتصاد هي رأس المال والعمل والطبيعة‏؟! وذكرت أن ماليزيا وإندونيسيا واليابان، وكوريا ومعظم النماذج الآسيوية راهنت على عنصر العمل ونجحت، وتفوقت‏!‏ أما نحن فما زلنا نراهن على كل شيء وأي شيء عدا قدراتنا وثقتنا في أنفسنا‏!!‏ حيث اضمحلت لدينا قيم العمل، وتفككت وحلَّ محلها آفات المظهرية والفهلوة؛ وأوهام الكسب السريع ‏..‏ صارت الشطارة شيئا آخر غير المهارة والدقة والإتقان‏!‏
وأكّدت على أن تصحيح موقفنا من قضية العمل هو وحده الكفيل بأن يجعلنا أكثر مبادرة وإيجابية وشجاعة وانتماء‏..‏ فهل يملك مجتمعنا العربي القدر الكافي من ذلك‏؟!‏
اليوم، أواصل حديثي حول هذه القضية المهمة، وأتساءل: كيف يمكن للمجتمع أن يعود إلى ما كان عليه من تقديس العمل وإتقانه واحترام الوقت وحسن استثماره؟! ما السبيل لتجاوز آفات الكلام والفهلوة إلى ثقافة العمل والإنتاج؟‏!..‏ متى يتوقف آلاف الموظفين عن ترك دوامهم والتجول في أوقات العمل في الطرقات والشوارع؟‏!‏ لماذا تفشى التواكل وصاحبته المظهرية؟! لماذا باتت غالبية الناس تعاف الجهد وتفضِّل ما يجلب السمعة دون تعب أو مشقة حتى لقد تناهى مع هذه الظواهر السلبية إحساسنا بقيمـة الـوقت حتـى تحول الفاقد فيه إلى كم هائل من الفاقد الوطني‏؟!!..‏ وأصبحنا لا ندرك أن الإنتاج، هو حصيلة عمل والعمـل نتاج وقـت وأن وقـت المجموع هو حصاد‏ (أوقات‏)‏ أفراده‏!..‏ نمنح الإجازات بالأيام وبالأسبوع بينما نتباكى بعد ذلك على ضيق ذات اليد وفقر الإمكانات‏؟!..‏
ولم تشكِّل هذه الإجازات فاقدا‏ من الإنتاج الوطني وإنما رسّخت فينا عدم قيمة‏ (‏الوقت‏)!..‏ في وقت يجعل العالم الوقت على رأس قائمة قيمه الإنسانية، دونما أن ندرك أنه حين يرخص الوقت؛ يضمر العمل، ويتراجع الإنتاج ويتقدَّم المشهد العوز، والفقـر الذي بات يأكل الأخضر واليابس‏!
فمتى ندرك أن قيم الوقت واحترامها جزء أساسي من ثقافة العمل والإنتاج التي بات لازما أن تنهض عليها حياتنا؟‏!‏
والحديث عن ثقافة العمل وزيادة الإنتاج، يفتح أيضا الباب على مصراعيه، للحديث عن الثقافة بعامة‏ ..‏، بوصفها الأرضية العريضة التي تخرج منها جميع الثقافات الفرعية ‏..‏! فالثقافة في مفهومها الكلي نتاج العمل الإنساني وإبداعاته من فن وآداب وفكر، وتراث وعلم وعمل‏..‏ يتوارثه الأحياء، والأجيال‏..‏ هذه الثقافة، هي تراكم للأنشطة والإبداعات المتنوعة والروافد العديدة التي تصب فيها‏..‏ من هذا المجموع العام المتداخل، والمتفاعل من الدين والمعرفة والسياسة والفنون والاقتصاد والأخلاقيات والقانون والعادات والتقاليد والأعراف ـ تشكّل قيما ثقافية تنطبع في النسيج الفردي والجمعي وتتبدّى في سلوكياته وعمله وجده كما في لهوه، ولعبه‏ ..‏ ومن تركيبتها تتكوّن مقومات (شخصيات)‏‏ الشعوب ‏..
إن ثقافة العمل والإنتاج ليست منفصلة عن سياق الثقافة العام، الذي يعود إلى‏ (المهنة)؛ أو (الحرفة)‏‏ أو‏ (الصنعة‏)‏‏ إنما هي إرساء وتنمية وتكريس القيم التي تربط (القيمة) بــ (العمل) والعمل بالإنتاج وتربط إطار السلوك بمعايير الالتزام، والجدّ، والاحترام وانتشار هذه الثقافة واجب مجتمعي عام، لا بد أن يسهم فيه الخطاب الديني والثقافي والإعلامي مع البيت والمدرسة‏..‏ فما أحوجنا في المرحلة المقبلة إلى تبني، وتقديم شعارات من مثل‏: ''‏مَنْ جدَّ وجد؛ ‏و‏مَنْ زرع حصد‏!..‏ واستحضار الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة؛ والقيم التي تحث على قيمة العمل والاهتمام به..‏ هذه القاعدة الثقافية متجَذِّرة في تيار الثقافة العامة؛ ولكنها بحاجة إلى الالتفات إليها والتقديم لها حتى تتصدَّر الأولوية وتتجذَّر في الوجـدان العـام وتصبح نمط حياة ودستور المجتمع؛ ليجعل‏ (العمل)‏‏ أسلوب حياته والإنتاج غايته التي ينعقد عليها مصير الوطن في حاضره ومستقبله‏.‏
ما أقصده بثقافة العمل والإنتاج هو ضرورة أن يلتفت مجتمعنا كله بكل توجهاته وفئاته وأطيافه إلى تكريس ثقافة العمل والتعريف بأهميتها ودفع مجمل حركته وأنشطته؛ ليكون كل فرد (طاقة) عاملة منتجة ‏..‏ في المصانع والوحدات، والورش الإنتاجية وفي الوظائف والخدمات والأعمال والمهن والحرف ‏..‏
إن ثقافة العمل، وقيمه، وإعلاء قيم الصدق والأمانة فيه، تنعكس، لا محالة على المجتمع كله في شتى احتياجاته: سكناته وحركاته ومواصلاته ومدارسه وملاعبه وحدائقه‏..‏ يحدث ذلك حين نوقن أن عمل كل فرد عائد لا محالة إلى الجميع وأنه لا أمل في الخروج من محنة، العوز الفقر والاحتياج إلا بتحول المجتمع كله إلى طاقات عمل، منتجة، منجزة، فاعلة مدفوعة بثقافة، تقدِّس العمل ذا الجودة والدقة والإتقان‏!‏ التي باتت عصب بيئات العمل والإنتاج في عالم اليوم؛ ومفتاح القدرة على تحقيق الجودة وعلى التسويق في عالم تشتد فيه المنافسة إلى حد لا تترك معه مجالا لأنصاف العاملين أو الخاملين ‏..!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي