لماذا التحكيم والوسائل البديلة لفض المنازعات؟
القضاء بطيء ويستغرق وقتا، ودائما عنده عجز في عدد القضاة مقارنة بعدد القضايا، وهذه صفة عامة للقضاء في جميع دول العالم ليس في السعودية أو الشرق الأوسط، بل في كل مكان.
ولأن صوت التجار والتجارة منظم ومسموع وفاعل طالب مجتمع الأعمال في الغرب بحماية تجارتهم وأموالهم التي يرغبون في الخروج بها من داخل أوطانهم إلى الخارج الغربي في الدول الأوروبية وأمريكا، فكان اللجوء إلى حل المنازعات بينهم عن طريق التحكيم الذي من فلسفته أن تأخر حسم المنازعات وتكلفته عامل سلبي خطير على مستقبل الأعمال.
ولذلك، فإن القول إن التحكيم لخدمة القضاء أو التخفيف عنه ترويج غير دقيق، بل غير صحيح لموضوع التحكيم؛ لأن من طالب به في الأساس هم التجار ورجال الأعمال في الغرب، وهذه الممارسة هي في الأساس فكر رجال الأعمال والاقتصاد، وانعكست ممارسات التحكيم على المحامين الذين مارسوا حل المنازعات التجارية من خلال التحكيم بما يخدم المصالح العليا للتجارة والتجار بأقل تكلفة وأسرع وقت وأفضل وجه وأدخلوا علم التحكيم في الجامعات الحقوقية والاقتصادية، وكذلك أنشأوا مراكز التحكيم الوطنية والعالمية واستجابت السلطات التشريعية لمطالبهم واحترمها القضاء الوطني.
ومع مرور الوقت واتساع النشاط التجاري وزيادة سرعة الاتصالات والمواصلات والنقل والتنقل أصبح حل المنازعات بواسطة التحكيم، الذي اختصر زمن التقاضي سابقا، مكلفا ماليا وليس محققا بالضرورة السرعة المطلوبة الآن في حل بعض المنازعات؛ لذلك طالب رجال الأعمال بمزيد من السرعة والفاعلية اختصارا للوقت وخفضا للتكاليف، فكان إلى جانب التحكيم ما يسمى الوسائل البديلة لحل المنازعات التجارية مثل الصلح والتوفيق والتسويات الودية، وأصبح لها أنظمة ولوائح ومراكز ومتخصصون وممارسات تشريعية وقضائية، وأخذت تلقى رواجا كبيرا لخدمة التجارة ونمو وازدهار التجارة العالمية في أمريكا ومعظم الدول الأوربية التي فرضت شرط التحكيم لحل النزاعات التجارية على دول العالم الثالث الذي بدأ في تلقي علم التحكيم بطريقته وثقافته، التي انعكست على سلطته التشريعية والقضائية ومؤسساته وغرفه التجارية ورجال الأعمال والمحامين والمهن حرة، فكان القضاء ولا يزال في ريبة من أحكام التحكيم، بينما الأساس في التحكيم هو خدمة التجارة والأعمال، وسبب ذلك أن رجال الأعمال ثقافتهم الحقوقية ضعيفة وغرفهم التجارية انعكاس لهم، ولهذا صوتها خافت مع سلطات الدولة من تشريعية وقضائية وتنفيذية، وهذا ما يفسر لماذا يخسر معظم المنتمين إلى دول العالم الثالث قضاياهم التجارية بواسطة التحكيم في غرفة التجارة الدولية في باريس أو غيرها من مراكز التحكيم العالمية أو الإقليمية؛ لأن معظم مقومات وأساسيات اللجوء إلى التحكيم التي تبدأ باختيار المحامي المتخصص في العقود، ومن ثم المتخصص في صياغة بند التحكيم وفض المنازعات فقط غير موجودة وغير متوافرة إلى غيرها من المتطلبات القانونية والمالية والإدارية لممارسة عمل التحكيم التجاري.
وفي السعودية ودول الخليج هناك جهود لتفعيل التحكيم، لكنها جهود حقوقية وقضائية فقط، وهذا لا يكفي، ويؤكد البعد عن أصل وجود فكرة التحكيم ومؤسساته التي يجب أن تبدأ من رجال الأعمال والغرف التجارية بالرغبة والطموح والغايات والأهداف نفسها شريطة أن يتلقوا الدعم والرغبة والطموح نفسها من قبل السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية بما ينعكس على المحامين والمتخصصين من أهل الخبرة بعد إنشاء مراكز التحكيم لتحقق الغايات والأهداف الحقيقية من أصل وجودها، على أن تشمل أيضا الصلح والتوفيق والتسويات، التي هي أقرب لثقافتنا وطبيعتنا في الشرق الأوسط. وكي ندلل على ما نقول، فإن 10 في المائة من القضايا التجارية يحكم فيها القضاء الوطني في أمريكا من خلال المحاكم، وهذه نسبة في تناقص مستمر؛ نظرا للتكلفة الباهظة جدا في مصروفات المحاكمات وأتعاب المحامين والخبراء، إضافة إلى الوقت الذي يصل إلى متوسط خمس سنوات لإنهاء الدعاوى في حين أن 60 في المائة من هذه القضايا التجارية تحل عبر التحكيم، وهي في تناقص، وتستحوذ الوسائل البديلة لحل النزاعات على 30 في المائة، وهي في ازدياد، خاصة إذا ما علمنا أن حل المنازعات بواسطتها يجعل عمر القضية أسابيع عدة، عوضا عن عام واحد في أسوأ الأحوال، ولعل شراكة مؤسسية تأسيسية لكل من الهيئة العامة الاستثمار ومجلس الغرف السعودية وفريق التحكيم السعودي مع وزارة التجارة برئاسة وزارة العدل تؤدي إلى التطورات التشريعية اللازمة لإرساء مفاهيم جديدة لتطوير التحكيم والوسائل البديلة لحل المنازعات لتطوير المنظومة القضائية في ظل مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء وديوان المظالم وخدمة مجتمع الأعمال ودعم إحدى أهم وسائل جذب وتوطين الاستثمارات الأجنبية والمحلية في عصر العولمة.. والله الموفق.