إيران.. مرحلة جديدة من تهديد الأمن القومي لدول الخليج العربي
> تفرض التحديات الداخلية والخارجية عادة تحولات في القرار السياسي، تتناسب وحجم وطبيعة هذه التحديات من حيث القوة والقيمة والسياسة، وعندما تمس هذه التحولات الشأن الأمني (الوطني والقومي) تحديدا، فإن إعادة بناء الاستراتيجيات الوطنية يصبح ضرورة لازمة. وبما أن التحدي ليس عرضيا وليس استثنائيا وله علاقة بالجوانب الجيوبولتيكية، فإن الإعداد والاستعداد له يعد من صميم الأمن الوطني، وبما أن دول الخليج العربي تتعرض لهجمة إيرانية شرسة لها أطماع بعيدة، وهي سادرة في غيها ومطامحها وتبني لذلك مشاريع تسلح عسكري ونووي وتدخل استخباري وتعبئة وتحريض ديني في إطار ولاية الفقيه، وهي ولاية سياسية ودينية بالمنظور الإيراني، فإن هذا حتما يجعل دول الخليج ومجتمعاتها أمام تحد حقيقي لأمنها القومي قد يسفر ـــــ لا سمح الله حال التهاون معه ــــــ عن واقع سياسي جديد، بدأت ملامحه تتضح في المخطط الاستراتيجي الإيراني، خاصة إجهاض حكومة طالبان السنية، وبعد السيطرة على العراق، وبعد النفوذ الكبير في سورية ولبنان وغزة، ومحاولاتها لبناء جيب في اليمن وأخيراً محاولتها احتلال البحرين، وبما أن دول مجلس التعاون الخليجي ذات تماثل وتداخل اجتماعي وثقافي وتاريخي، وبما أن لديها أفضل تجمع عربي، فإن إمكانية قيام وإيجاد جيش دفاع خليجي بات أمرا مهما واضطراريا، وكذلك وكالة خليجية للاستخبارات، وفضائية للإعلام الخليجي ضمن منظور الأمن القومي الخليجي.
ضمن هذا الإطار الاستراتيجي للسياسة الإيرانية وللسلوك المزدوج والمتعدد الازدواجية، فإن الركون إلى السياسية الإيرانية من ناحية التعاون وحسن الجوار يعد رجما بالغيب، في ظل مجموعة من الوقائع والحقائق التي تكشف زيف السياسة الإيرانية وتطلعاتها ومخططاتها البعيدة، ولعل ما يشير إليه الدكتور مازن الرمضاني المتخصص في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية من ازدواجية إيران على لسان قياداتها، فإن هذا كفيل بضرورة إعادة بناء مفاهيم الأمن الوطني والقومي الخليجي على نحو شامل، بل السعي إلى بناء منظومة أمن إقليمي للسيطرة على حالة الجموح الإيرانية، يقول الرمضاني (إن ما قاله "محمد علي أبطحي" نائب الرئيس الإيراني السابق "محمد خاتمي" إن بلاده: (قدمت الكثير من العون إلى الأمريكان في حربهم ضد أفغانستان والعراق) ومؤكدا أنه: (..لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة)، وكذلك نفهم قول رئيس الجمهورية الإيرانية الحالي محمود أحمدي نجاد: (إن العراق وأفغانستان اللتين كانتا تمثلان تهديدا مباشرا لإيران جعلهم الله في سلة إيران)، فهذا المنطق السياسي يكشف عن حقيقة الرؤية الإيرانية، ويؤكد أن الأمن القومي الإيراني حقيقة متحركة وقابلة للتمدد، وساحة امتداده وحركته معتمدة على الإطار الشامل للتحرك ضمن قاعدة ولاية الفقيه، فالولاية ليست فقط سياسية ودينية داخلية، وإنما ولاية خارجية تتجاوز حدود إيران وسيادتها إلى حدود وسيادة الدول، وهذا يطرح سؤالا حول قانونية التدخل الإيراني ببعده الديني ليكون له حق الولاية الدينية على مواطنين عرب في الدول العربية، وتحديدا الخليج لو لم يكن لذلك هدف سياسي بعيد.
وعليه، فإن الازدواجية السياسية الإيرانية جزء رئيس من التركيبة السياسية لإيران اليوم؛ فهي مليئة بالتناقضات المختلفة، لكنها وبعد معاينة وقراءة حقيقية فإن البعد القومي الصفوي يعد المحرك الرئيس لها، وهنا يشير الرمضاني إلى أن (السياسة الإيرانية المزدوجة التي تم اعتمادها حيال أفغانستان أولا، والعراق لاحقا، تفيد بأن السياسة الخارجية الإيرانية عندما يتعين عليها الخيار بين مبادئ الأيديولوجية الدينية والمصالح القومية العليا، فإنها تختار المصالح القومية العليا دون تردد).
ولذلك، فإن تحليل السياسة الخارجية الإيرانية والخطاب السياسي الديني الإيراني، في كل حالاته صخبا وانفعالا أو هدوءا، دبلوماسيا أو أيديولوجيا، لا يخرج عن هذا المحدد، وهو مصالح إيران القومية، وهي مصالح نزعم أن الدين والتاريخ والتشيع ودعم المقاومة والمقهورين والمظلومين، واستدعاء كربلاء إنما يصب بالمحصلة في إطار هذه المصالح التي تتقدم على كل شيء، ويصبح كل شيء في خدمتها، لكنها روافد ومجالات عمل ووسائل لتحقيق الأهداف والنفوذ السياسي بالمحصلة.
ولتحليل مستويات وأدوات السياسة الخارجية الإيرانية وفواعلها، فإن هناك العديد من المؤسسات المساهمة في تصنيعها وفي تنفيذها، ليست بالضرورة وزارة الخارجية، لكن من أبرز هاتين المؤسستين بوصفهما صاحبتي الدور المركزي لتحقيق المصلحة القومية الإيرانية هما الحرس الثوري الإيراني والاستخبارات الخارجية التابعة له، وأما باقي المكونات الاقتصادية والإعلامية والثقافية التي يسيطر عليها فإنها تعد أدوات، وكلها مسخّرة بالطبع لخدمة المصالح الإيرانية، وكلها تعمل ضمن مجالات متعددة (ديني وثقافي وسياسي وإعلامي وأمني)، لكنها تصب في النهاية في خدمة الاستراتيجية القومية الإيرانية، وبالطبع تعد الاستراتيجية الدينية الإطار والمجال الحيوي العام لمجالات التحرك والنفوذ والمجال الجيوبوليتيكي لهذا الحراك، وفي دائرته الرئيسة الخليج العربي والعراق ومنطقة الشرق الأوسط، ومن بعدها العالم الخارجي تبعا للأوراق الرابحة والفاعلة التي يمكنها خدمة الأهداف الإيرانية، لكنها تركز أساسا على الدائرة الشيعية المذهبية، ومن بعدها التشيع الثقافي والسياسي، وبعدها تشيع المصالح والمنافع والتعاون والاستخدام.
والسياسة الداخلية والخارجية الإيرانية مكملة لبعضهما بعضا، فالداخل في خدمة السياسة الخارجية ويعمل في إطارها، ولكن منذ الثورة وجدت إيران أن تحقيق أهدافها، سواء بترتيب الداخل أو بترتيب العلاقات مع الخارج لا يتم إلا ضمن منطقين، المنطق الخارجي وهو تصدير الثورة للخارج لاعتبارات سياسية عديدة، لعل من بينها البحث عن أعداء لا أصدقاء لترتيب الداخل باعتبار أن العدوان الخارجي يمنح الدولة حقوقا لترتيبه وفقا لمتطلبات الأمن القومي، وأيضا اعتباره مضادا للثورة وأهدافها، ووفقا لذلك كان لا بد من إنتاج معادلة تستند إلى الموروث التاريخي الديني تضمن حكما تجيير جميع الموارد لخدمة أهداف الثورة ضمن بنائها الديني، لكن لغايات سياسية داخلية أيضا، وعليه يؤكد فهمي هويدي أن تصدير الثورة جزء لا يتجزأ من المكون الديني والسياسي للثورة الإيرانية، ويؤكد أن طهران وبقرار رسمي أنشأت الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين وجبهة لتحرير الجزيرة العربية، وسعت إلى دعم المعارضة الشيعية للعراق، كما أن هذه الجبهة توسعت لتشمل دول الخليج لإثارة القلاقل والفوضى لتصدير الثورة، ويؤكد أنه سأل هاشمي رافسنجاني الذي أقصي أخيرا عن مؤسسة تشخيص مصلحة النظام، عن تصدير الثورة والعنف الإيراني للخليج، فكان رد رافسنجاني، أن ما تقوم به إيران هو جزء من الدعوة وإيصال الرسالة والتبليغ، في حين كان رد نائب وزير الخارجية الإيراني آنذاك الدكتور علي شمس الدين أردكاني (لقد تعبنا في إبلاغ دول الخليج بأن الذين يتحدثون عن تصدير الثورة لا يعبرون عن وجهة نظرها بل يمثلون تيارا داخلها)، لكن كيف عندما يصبح تصدير الثورة أحد المهمات الرئيسة للدولة وعبر أدواتها المختلفة، كيف يمكن اعتباره وجهة نظر، وهل هناك أكثر من دولة داخل الدولة، وماذا عما يجري من عوامل تهديد واستهداف لدول الجوار العربي.
وضمن هذا المنطق السياسي يمكن معرفة كيفية إنتاج أدوات السياسة الخارجية وصولا لمكونات العقيدة السياسية التي تعمل على قاعدتها مختلف الأطراف وتعود لها في كل الأوقات، سواء كان ذلك من تعبئة داخلية وتحريض خارجي، ومن تعبئة دينية، إلى رسم معالم لمجالات حيوية وتدخل في الشأن الأمني لدول الجوار، وإلى ازدواجية الخطاب وتنفيذه، فهذه بالطبع عملية بناء تبدو معقدة ويومية، تصاغ فيها الحياة الاجتماعية والسياسية لإيران.
وعليه؛ فإن أولى المهام الرئيسة لعملية البناء هي إعادة صياغة الداخل وفقا لمنطوق ديني ثوري دعائي استسلامي لسلطة الولي الفقيه، واحتجاجي خارجي دفاعا عن مكاسب الثورة ضمن الملحمة الشيعية الكبرى ومركزيتها مقتل الحسين وكربلاء الدم والتضحية والمصالح المتشابكة.
والمواطن الإيراني كـفرد في هذا البناء يفقد السيطرة على مقود العقل ويصبح مأسورا للتاريخ من جانب ولقيم الثورة من جانب آخر أو مغادرة إيران، وفي بعض حكايات التاريخ ـــــ كما قلنا ـــــ دم ومصالح وسياسة، ونظرة صفوية للمستقبل، والمواطن العادي لا ذنب له؛ لأنه خاضع في جميع حالاته لتعبئة أفقدته خصوصيته وعبثت بذاكرته وأفقدته الصواب، وفتحت ملفاته، وكتبت داخلها (كل يوم عاشوراء وكل يوم كربلاء)، وضمن هذا المنطق تبحر سفينة الثورة الإيرانية على قاعدة الاختزال الجمعي لإرادة الناس.
يذكر لي أحد الأصدقاء الإيرانيين وهو مقيم في ألمانيا، أن شبابا إيرانيين ينتمون إلى حزب تودة الشيوعي، وتحت ضغط عمليات التعبئة وجد أن بعضه يقتفيه الحزن والبكاء الحسيني ويذهبون بأقدامهم لحفلات اللطم، وعندما سألته ما السبب قال إن العملية فيها أسر تاريخي وإحساس تاريخي بالمظلومية، وإن هذا الإحساس لا يختفي وإنما يصار إلى استدعائه وجعله مهيمنا على العقل السياسي والجمعي الإيراني، فمن المطار إلى سرير النوم أنت معتقل لهذه التعبئة، فمأساة الشيعة خاصة الصفويين منهم تحديدا أن كل شيء لديهم يفسر من خلال كربلاء، وأن العقل السياسي الإيراني (الصفوي) وظف مقولات عن الإمام علي ــــــ رضي الله عنه ــــــ وجعلها جزءا مهما من خطابه التعبوي الإعلامي والسياسي والديني، ومنها قول الإمام علي (بقية السيف أنمى عددا وأكثر ولدا) وفسرت كالآتي قاتلوا حتى النهاية؛ فقليل ما لديكم من عتاد كثير، وأيضا (يا سيوف خذيني)، وهي ضمن هذه الخلطة التعبوية تعمل على تحريك الشارع وتجييشه وقيادته إلى حيثما تشاء؛ لأن الشارع مستلب العقل ويقاد بسوط التاريخ وهيمنته، وفي بهشت زهرا يسام المواطن الإيراني إلى يوم التعبئة الديني الأسبوعي، فينتقل أسبوعيا إلى التاريخ ليرد ويشرب البكاء والحزن والشعور بأنهم لم يناصروا الحسين، ولهذا ففي بعض التعذيب النفسي والبدني اعتراف بالذنب واستحضار للمظلومية، ليس في الأمر استدعاء واستحضار للتاريخ، وإنما ذهاب إليه باستسلام وبحزن شديد، يطوف بهم عبر دعاء الندبة الحزين الذي يقودهم بسيناريو بكائي إلى كربلاء الدم والعنف والشهادة، فالبكاء يمحو الحزن، لكنه يصيغ خارطة المستقبل.
بالأمس القريب كنت على تواصل مع صديق قديم من عربستان، وهو جواد علي الخاقاني، وقد أرسل لي الخاقاني فقرة من تصريحات كانت في بداية هذا العام لمهدي صفري، نائب وزير الخارجية الإيراني السابق، وهو السفير الإيراني في بكين اليوم، أدلى بها لصحيفة داغ بلادت النرويجية يقول فيها (ليس هناك ارتباط تاريخي بين العرب والفرس، فالحضارة العربية طارئة، وهي حضارة ما بعد النفط، فالعرب شعوب بدوية همجية كانت هائمة في الصحراء، ويضيف أن فارس لديها ارتباط تاريخي بالحضارة الأوروبية وتحديدا بالشعوب الأرية، ولهذا لغتنا الفارسية هي خليط بين الهندية والألمانية، وأن الخليج فارسي، وما تسميته بالعربي، إلا بسبب سيطرة النفط العربي على الإعلام الخارجي، ورشوته).
وعندما تراسلت مع الخاقاني عبر الإيميل قال إن قلب الحقائق وتزوير التاريخ جزء رئيس من فلسفة الثورة الإيرانية.. وكربلة السياسة والعلاقات الدولية وتوتيرها، وإدامة التوتر، وشد الأطراف مهنة إيرانية صفوية بامتياز، وأن إشعار العالم بأنهم مظلومون، وأنهم مُناصِرون للمظلومين في العالم ركن أساسي من حركة الدعاية السياسية الإيرانية.. وإن هناك مؤسسات كبيرة عملها الرئيس إدامة المسرح الكربلائي في الداخل، وإدامة الصراع في الخارج، بل إن هذه المؤسسات تقوم بأعمال وحفريات تاريخية لتركيع التاريخ خدمة للسياسة الجديدة، ولك أن تتابع مسلسلات حول النبي إبراهيم ويوسف والمسيح ومريم لتكتشف أن القفلة النهائية لكل الأنبياء هي التأكيد على قدوم النبي محمد ــــــ صلى الله عليه وسلم، والتأكيد على طائفة من بعده تملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا، وأنها نصيرة للمستضعفين في الأرض ولم يبق أمامهم إلا الإشارة إلى إيران.
ولهذا، فإن ربط عقول المواطنين وأقدامهم بسلاسل التاريخ الدموي هي، بالمعنى السياسي، أدلجة وإحكامات تاريخية مقيدة للمستقبل؛ ولهذا فالإيراني أسير التاريخ، والتاريخ لعبة ومسرح السياسة الجديدة، ولهذا فإن إيران الثورة استطاعت أن تستحضر التاريخ والدين لخدمة الغرض السياسي، فالحرب على إيران هي الحرب على الحسين، واستهداف إيران هو استهداف للحسين، وهذا الإحساس بالمظلومية التاريخية هو المحرك الرئيس للسياسة الإيرانية، لكنه محرك ليس على قاعدة دينية، وإنما محرك على أساس استعادة الأمجاد الفارسية، وعلى أساس إلغاء الآخر والهيمنة عليه، والتدخل في شؤونه.
وهنا؛ علينا أن ندقق كثيرا بين شخصيات الدولة الإيرانية وبين القادمين من ساحات الحرس الثوري؛ لأن المنطق والهدف والآلية والفهم وطريقة التفكير والعمل لكلا الطرفين مختلف جدا، والاختلاف هو بين منطق الدولة ومنطق الحرس الثوري، وهي عقدة الدولة الإيرانية، فالدولة تعني هياكل ومؤسسات وقانونا وقرارات وتغذية راجعة وصاعدة وعلاقات دولية والتزامات أخلاقية، والحرس الثوري قوة ميليشيا اختصرت واختزلت الدولة ومؤسساتها والقرار فيها، وهي إن كانت على قدر كبير من القوة والتنظيم، إلا أن المحللين يرون أن هيمنة الحرس على مفاصل الدولة وإدارتها بمنطقه هو لُبُّ الإشكالية والصراع الداخلي، فإيران اليوم ليست فقط منقسمة قوميا وإثنيا وعرقيا، وإنما منقسمة داخل النظام نفسه بدرجات وامتيازات الولاء والإيمان، والحرس الثوري هو قمة الإيمان بالثورة وفكرتها ومصلحة الدولة وشؤونها، وهناك اختلاف كبير في أن تتعامل مع دولة أو مع ميليشا تحتكر السلطة.
مشكلة إيران اعتقادها أن المتغيرات التي حدثت عربيا، وتحديدا في مصر، ستقلب المعادلات السياسية التقليدية في المنطقة، وأن إيران أسهمت في تشويه صورة مصر لدى الرأي العام المصري والعربي، وأيضا فإن إيران تعتقد أن الحركة الإسلامية في مصر مخترقة لصالح طهران، وهي نتاج للثورة الإيرانية، وهو الأمر الذي عبر عنه المراقب العام للإخوان المسلمين في إيران عبد الرحمن بيراني، من انتهازية الإخوان المسلمين ومكتبهم الدولي المؤيدين لإيران، ما دعا بيراني لتعليق عضوية إيران في المكتب الدولي لفترة من الوقت، خاصة عندما لم يستنكر الإخوان المسلمون ومكتبهم الدولي التصفيات الدموية للمشايخ والعلماء السنة في إيران!!
إيران ما زالت تعتقد أن أمريكا تراجعت عالميا، حتى في موقفها الأخير من الجهد الدولي حيال ليبيا، ترى طهران أنه تراجع مريع وبحسب أحمدي نجاد فهي زائلة، غير أن اللعبة الإيرانية ــــــ الأمريكية مكشوفة أيضا، وهي لعبة يعرف البعض مغزاها البعيد، وهي لعبة القط والفأر على المنطقة العربية، فأمريكا تثير الهواجس الخليجية حول إيران، وإيران تعلن زوال أمريكا وتؤكد مطامعها، وأن على دول الخليج تقديم فروض الولاء والطاعة لها.
والتراجع يستدعي من طهران التقدم خطوات للأمام؛ لأن التحرك بمفهوم الحرس الثوري تحرك أمني وعسكري أولا، ولهذا قرأت إيران تصريحات روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي في المنامة بشكل مختلف، فهمت منه أنه رفع للغطاء وتراجع، وأعدت طهران العدة لاحتلال البحرين باتفاق وقوى محسوبة عليها، وكان دخول قوات درع الجزيرة ضربة قاسمة للأحلام والمطامع الإيرانية، ومزعجا للإدارة الأمريكية في الوقت نفسه!
في هذه الأثناء؛ تحاول طهران رفع سقف الحرب الإعلامية والكلامية مع دول الخليج وتحديدا السعودية، لكنها في الوقت نفسه تقيس درجات التفاعل العربي مع هذه التصريحات، خاصة من مصر، غير أن المجلس العسكري المصري أعلن رفضه المس بأمن دول مجلس التعاون الخليجي معتبراً إياه خطا أحمر، وأعلن أن مصر لن يحكمها خميني جديد، ومع ذلك تمضي السياسة الإيرانية قُدما ليس محبة في مصر وإنما رغبة في ضرب قوس حول السياسة والدور السعودي الفاعل خليجيا وعربيا وإقليميا وعالميا؛ ولهذا هناك استماتة إيرانية لعلاقات فوق العادة مع مصر، فقد أكد رئيس لجنة الأمن القومي والعلاقات الخارجية في البرلمان الإيراني، أن العلاقات مع القاهرة فرصة مهمة وتاريخية للدبلوماسية الإيرانية، ومصر بالطبع في مرحلة انتقالية، وتشهد في هذه الفترة تنافسا واستقطابا إقليميين، وتحديدا من تركيا وإيران وإسرائيل.
هنا نسأل وزير الخارجية الإيراني محمد علي صالحي عن تصريحه الذي أكد فيه أن (السعودية تستحق إقامة علاقات سياسية مميزة مع إيران، فإيران والسعودية يمكنهما كدولتين فاعلتين في العالم الإسلامي حلّ الكثير من المشاكل معًا، وهذا الكلام نقلا عن وكالة الأنباء الإيرانية مهر) أين السياسة الخارجية الساعية بشدة إلى تعزيز العلاقات الإيرانية ـــــ السعودية؟ وأين الدولة الساعية إلى حسن الجوار والاستقرار الإقليمي؟ وهي تعبث بالأمن الخليجي في البحرين واليمن والكويت، وهل يلعق الوزير كلامه وتصريحاته، أم أن ما يتعلق بالأمن الخارجي والعلاقات الخارجية من اختصاص الحرس الثوري والاستخبارات الإيرانية، وأن كلامه مجرد تنظير.
المنطق أن تكون العلاقات حسنة ومتوازنة وعلاقات جوار تاريخي، وأن تتحلى بقيم الإسلام وأخلاقياته، وأن تكون بعيدة عن التمذهب والشيطنة والاتهامية والتحريض والمغالطات التاريخية، والمنطق الذرائعي لمد النفوذ تحت يافطة الصحوة الإسلامية وعلى قاعدة ولاية الفقيه (الولاية الدينية والسياسية طبعا).
لكن ماذا بعد إذا استمرت طهران تتعامل بازدواجية غريبة وتسيء للأمن القومي العربي والخليجي، فهي لا تراعي علاقاتها ولا الأمن والاستقرار الإقليمي والخليجي، وتعبث بأمن دول الخليج، وتتهدد وتتوعد وتثير الفتنة، وتدعي حق الولاية السياسية والدينية على مواطنين خليجيين، هل يكفي تنديد وزراء الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي، وهل نصمت على إثارة الفتنة؟.. يبدو أن الأمور تتجه لمرحلة جديدة من العلاقات ليس مع إيران وإنما لتشكيل منظومة أمن إقليمي لضبط إيران وتطلعاتها.