البخل والغنى

بخلت الطبيعة على اليابان فحرمتها كثيرا من الموارد الطبيعية لكنها في المقابل كانت سخية معها في حجم الهزات الأرضية التي تضرب قشرتها على مدار السنة. بيد أن اليابانيين تكيفوا مع شح الموارد ليركزوا على غنى إنسانهم واعتباره الثروة التي يجب الحفاظ عليها وعدم إهدار كرامتها, وتأمين كل ما يلزم ليعيش بكرامة. وكان أيضا لشعب الساموراي نصيبه من ظلم بعض العباد ممن ينتمون إلى بلاد العم سام, في قنبلتي أمريكا النوويتين على ناجازاكي وهيروشيما نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن دمار الحرب في البشر والحجر أعاد قولبة التفكير الاستراتيجي لأصحاب القرار لأن يركزوا على إجراءات صارمة لحماية البيئة والحفاظ على الثروات الطبيعية المتوافرة. وهذا ما دفعهم إلى أن يجندوا شبابهم وعجائزهم في عملية التنمية, واعتبار أن حماية أمن المجتمع هو مسؤولية الجميع أي بمعنى أن كل مواطن خفير. وثابرت الحكومات التي تتالت بعد 1950 على إعلاء مفهوم المواطنة وتثمين جهود جميع العاملين في القطاعين العام والخاص, باعتماد سياسة ضمان الأمن الوظيفي وتشمل الولاء على أطراف منظومة التشغيل كافة, أي أن الولاء لا يقتصر على جانب العمال دون أصحاب العمل بل هناك مطالبة لاعتبار موظفي الشركة أغلى الأصول في أي منظومة عمل يابانية, حيث إنه ليس بالأمر السهل الاستغناء عن أي عامل. كما أن نظام العمل يعطي أهمية قصوى لقسم الموارد البشرية وتتقارب رواتب مسؤولي تلك الأقسام مع المدير التنفيذي للمؤسسة. واعتمدت بلاد الساموراي أسلوبا غير اعتيادي في إخضاع القطاع الخاص لرقابة صارمة من الحكومة عبر جهاز بيروقراطي عالي الكفاءة وهذا الجهاز يتمتع برواتب مرتفعة جدا ويضع مصلحة اليابان فوق أية مصلحة خاصة.
أيضا اليابان تبنت مفهوم الحفاظ على الأصالة مع الانفتاح التام على المعاصرة, وحتى في مواكبتها لموجة التحديث فهي لم تتداخل مع ضرورة الحفاظ على هيبة لغتها. وعلى الرغم من مشاركتها في نقل التكنولوجيا الحديثة واستيعابها فقد كانت تلجأ إلى تشجيع الترجمة من اللغات الأخرى, كون الفريق الاقتصادي الحكومي ارتأى أن تكلفة الترجمة أقل بكثير من تكلفة توظيف مدرسين أو فتح معاهد.
وكما تستورد اليابان معظم الموارد الأولية وتعيد تصنيعها, فقد اعتمدت أواسط الثمانينيات استيراد التقنية أيضا ولم تبخل في جلبها أو إرسال مواطنيها لدراسة التقنية المرغوب نقلها بدقة. وكان لجوء اليابانيين إلى استراتيجية شراء التقنية وتطويرها بدلا من تصنيعها بأنفسهم.
أمر مكلف للغرب الذي استفاق من هذا الالتفاف، حيث إن التقنية التي يبيعونها لليابان تعود إلى أسواقهم بطريقة أكثر جودة وبأسعار تنافسية مما كدس البضائع في مخازنهم. وسرعان ما وصل التصنيع الياباني إلى مرحلة الخروج من التقليد واعتماده مبدأ احترام الخمسة أصفار: صفر مخزون, صفر أخطاء, صفر أوراق, صفر أعطاب, صفر تأجيل.
لكن يبقى الإنجاز الأكبر لهذا الشعب ابتعاده عن سياسة اللوم, فرغم عدم سخاء الطبيعة معه بالموارد والأمان إلا أنه استطاع أن يستخلص أكبر الثروات على الإطلاق وهي الإنسان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي