الجملوكيات العربية.. ولادة قاصرة تصل مرحلة الانفجار

مع نهاية حكم صدام طالبت قيادات وشخصيات عراقية بعودة الملكية، ونظروا للملكيات العربية على أنها عنوان للأمن والاستقرار، وفي ليبيا اليوم يرفع المتظاهرون علم الملكية رغم اختفائه 42 عاما، وفي السنوات الأخيرة أطلق كثير من المحللين العرب صفة الجملوكيات على الدول الجمهورية الساعية للتوريث، وخاصة بعد ما حدث في سورية وما عمل عليه جناح كبير في حكم الرئيس المصري حسني مبارك، وقريبا كانت اليمن قبل الأحداث، وما عليه الواقع السياسي الليبي من حضور بارز وفاعل لأبناء الأخ العقيد معمر القذافي، وهو ما أظهره في خطابه الأخير، عندما دعا شعبه الاستماع لأفكار وطروحات المهندس سيف الإسلام القذافي، والسؤال الذي يطرح نفسه، إذن الشعوب في الدول الملكية اقتنعت أنها في دول نظامها وراثي، وأنها تعمل على تطوير نظامها من الداخل تتحاور وتتفاعل عبر مؤسسات راسخة ومنظومة اتصال واضحة، فما الذي يدفع الجمهوريات إلى قانون التوريث، وهل من الممكن المزاوجة بين الجمهورية كنظام وبين النظم الملكية الوراثية، الأمر يبدو مختلفا جدا كونه مخالفة للنظام ومتناقضا معه أيضا؟
ميزة النظم الملكية الأمن والاستقرار ووجود المؤسسات والقانون، ومنظومة الحقوق، وأيضا القدرة على الاتصال والحوار والاستيعاب؛ ولهذا فهي قادرة على استيعاب المطالب والاستماع لشكاوى المواطنين عبر أكثر من وسيلة سلمية، وأن بمقدور المواطن أن يحصل على حقوقه وأن يصل رأس الدولة إن اتبع الوسائل المعروفة.
والنظم الملكية لديها ممارسة ومدرسة سياسية فهي لا تمارس الانفعال والحدية الصارخة مع مواطنيها، وتعمل على صهرهم وتوحيد إرادتهم وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية بين المواطنين، ناهيك عن أن الاستقرار يسهم في تعزيز أركان التنمية ويضاعف من عمليات البناء والرقي التعليمي والعلمي.
وبحسب المحلل البريطاني براين ويتكر في مقال نشرته صحيفة ''الجارديان'' البريطانية في 28 آب (أغسطس) 2001 بعنوان ''الجمهوريات الوراثية في الدول العربية'' يقول براين إن القابضين على السلطة في الجمهوريات العربية يواجهون خيارات محددة فيما يتعلق بانتقال السلطة بعد رحيل الحاكم الحالي: انتخابات حرة، دعم أحد أفراد النخبة، أو نقل السلطة إلى نجل الرئيس، أو المواجهة مع إرادة الشعب، ونلاحظ أن التوريث كان مرفوضا في الجمهوريات مهما كانت الوسيلة التي سيأتي بها، ولو عبر صندوق الانتخاب، ولهذا كانت المواجهة في مصر وليبيا وربما كانت ستحدث في اليمن لولا مسارعة الرئيس على عبد الله صالح إعلانه عدم الترشح وعدم التوريث، وكانت ستقع في العراق لولا القدر والظروف السياسية التي أنهت النظام السياسي قبل الوصول إلى هذه المرحلة رغم مقدماتها الكبيرة.
ويقول الدكتور سعد الدين إبراهيم في مقال مهم له في مجلة ''المجلة'' بعنوان (الجملوكيات العربية: مساهمة العرب لعلم السياسة في القرن الـ 20) والذي نشر في تموز (يوليو) عام 2000 ويروي إبراهيم في مقال آخر له بعنوان (فقه الجملوكيات العربية نهاية للإشاعة وليس للقلق) يؤكد فيه أنه وبعد كتابته المقال الأول في مجلة ''المجلة'' عام 2000 قبض عليه في مركز ابن خلدون وتمت محاكمته وأودع السجن لسنوات ثلاث، وفي مجلة ''المجلة'' وفي عددها رقم 349 الصادر بتاريخ 15 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1986 قال الرئيس المصري حسني مبارك ردا عن سؤال طرحه عليه الأستاذ عثمان العمير، وكان نصه ماذا عن اختيار نائب للرئيس؟.. فقال مبارك ''لن اختار نائبا للرئيس وسأدع هذه المهمة للشعب والمؤسسات الدستورية حتى لا يقال أنه اختار خليفة له أو فرض الشخص الذي يريده'' وفي 1/1/2004 قال الرئيس المصري للصحافة المصرية ''لا توريث للحكم في مصر''، وطلب في حينه وضع هذا الخبر مانشيت في مختلف الصحف الرسمية، وكانت إجابة سعد الدين إبراهيم على هذا الخبر أن الرئيس المصري قال إن ثمة شخصا أطلق إشاعة حول الاستعداد للتوريث في مصر وأن الرئيس يجهل هذا الشخص، وبالتالي جاء الإعلان لوضع حد للإشاعة غير أن إبراهيم قال في حينه ردا عن بعض الأسئلة من هو الشخص الذي كان يقصده الرئيس؟.. فكانت الإجابة أن الرئيس لم يقصد أحدا وليس لدي علم بمن قصده الرئيس، لتأتي الإجابة متأخرة الرئيس لم يقصد أحدا وإنما أراد أن يفكر المصريون بأن يستعدوا لاحتمالات التوريث.
ويشير سعد الدين إبراهيم إلى أنه نشر مقالتين في صحيفتي ''الأهرام'' القاهرية و''الحياة'' اللندنية، إحداهما بعنوان: ''دعوة إلى ملكيات دستورية في الجمهورية العربية''، والأخرى بعنوان ''ومع رحيل الحسن والحسين: نحو ملكيات دستورية في الوطن العربي''.
وكنت في المقال الأول أتنبأ بما يمكن أن يحدث في بعض الجمهوريات العربية، مثل سورية والعراق وليبيا واليمن ومصر. حيث طال الأجل برؤساء الجمهورية فيها. وحينما يطول أجل أي رئيس في الحكم ينسى أو يتناسى كيف جاء إلى الحكم في المقام الأول. ويتصور أنه كان هدية الله والقدر إلى شعبه ووطنه، ويساعده الحواريون والمنافقون من حوله في تحويل هذا التصور إلى يقين، إلى واجب مقدس في قلبه وعقله، في كيفية ضمان الاستمرار والاستقرار والازدهار لشعبه المفدى، وسرعان ما يقرأ الحواريون والمنافقون أنفسهم ما يدور في قلب وعقل الرئيس، أو يوحي لهم بهذه القراءة، فيبدأون بالتبشير لنجله بالرئاسة وحجتهم الأولى والحاسمة التي لا راد لها، هي من في هذا الكون كله يمكن أن يخلف الرئيس الملهم، والقائد الفذ، والزعيم المحنك غير نجله، الذي هو من صلبه، ومن لحمه ودمه، ويحمل كل صفاته العبقرية؟
هذه الصورة تفسر ما يحدث اليوم في بلادنا العربية، فالنظم الثورية التي تطلعت لتحرير شعوبها من الاستعمار والتخلف استعمرت شعوبها، واختزلت إرادتهم وحكمتهم بقوانين صورية وكانت كلمات وخطب الزعماء هي الدستور وهي القانون، فكانت خطب صدام تحتاج إلى مفسرين ومروجين، وقراءات في خطابات الرئيس، والرئيس معمر القذافي أصر على ابتداع نظرية عالمية ثالثة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، درست في المدارس والجامعات، ولكن اختزال السلطة وتغييب ليبيا جعلها تغلي لتنفجر وينفجر الغضب الليبي وتسقط السلطة وربما الدولة لعدم نضج المؤسسات المدنية، فقد حدث هذا الأمر في العراق، ويحدث في ليبيا اليوم، وحدث بعضه في مصر.
ويؤكد الدكتور سعد إبراهيم أنه طلب إليه من فضائية عربية التعليق على مشهد جنازة الرئيس السوري حافظ الأسد، وأنه أثناء التعليق توقع أن يصبح الدكتور بشار الأسد رئيسا لسورية، وكان ذلك قبل بدء إجراءات تنصيبه وتغيير الدستور السوري؛ كونه ينص على أن عمر الرئيس لا يقل عن 40 عاما، وأن الدكتور بشار الأسد عمره 34 عاما، فقلت سيعدل الدستور وسيتم الإعلان عن أن الأمر تم رضوخا لمطالب الشعب، وأن الظاهرة السورية على خصوصيتها ستنتقل إلى غالبية الدول الجمهورية ولم يذكر منها مصر، لكن الدكتور غسان سلامة بادر بالاتصال وسأل إبراهيم سؤالا نصه في كل ما ذكرت عن مسلسل التوريث، لم تذكر مصر، مع أن كل ما قلته عن العراق وسورية واليمن وليبيا، ينطبق على مصر! فقال إبراهيم وعلى الهواء، يا دكتور غسان، ''إن مصر تختلف، من حيث حجمها وتاريخها وهى دولة مؤسسات'' رغم أن محاولات الرئيس باتت واضحة في السنوات الخمس الأخيرة بأنها تميل نحو التوريث.
ويقول إبراهيم سألني مُشاهد من تونس، كان يُلح على المُشاركة في هذا الحوار الذي كانت درجة حرارته ترتفع دقيقة بعد أخرى، ولكن ''يا دكتور سعد الدين بماذا تسمي هذه المُمارسة العربية في توريث السُلطة في بُلدان جمهورية؟''، فقلت بعفوية: دعنا نسميها ''جملوكية''... سأل: نعم؟ قلت ''جملوكية''، أي نصف جمهورية، ونصف ملكية... جملوكية على وزن ملوخية.
ويضيف الدكتور سعد الدين إبراهيم أن المُشاهد التونسي سأل سؤالا آخر، ''وماذا عن بلدي تونس؟'' فقلت: ''من حُسن حظكم في تونس أن الرئيس زين العابدين بن علي، ليس لديه أولاد ذكور إلى الآن وكان هذا الكلام في عام 2000''، وعلّق الإعلامي المصري عماد أديب على إجابة إبراهيم بقوله: ''وربما لأن الملوخية ليست جزءا من المطبخ التونسي!''.. وضحكنا.
واليوم يبدو أن الملوخية تصل إلى نفق مسدود بعد أن وصلت ظاهرة السلطة الجديدة والغريبة إلى مرحلة لا يمكنها استيعاب المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجديدة؛ ولكونها ظواهر سلطوية غريبة فهي لم تحظ بشرعية اجتماعية، رغم كل عوامل ومحاولات جعلها شعبية وشبابية في أحايين كثيرة، وصلت مرحلة إما الالتزام بالخصائص الدستورية للجمهوريات، والالتزام بالانتخابات للمجالس النيابية وعدم تزوير الإرادة الشعبية، والالتزام بالجانب الدستوري فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية والرجوع عن التعديلات الدستورية التي أسهمت في عدم وجود زمن محدد لهذه السلطة، أو الاصطدام على أشكاله المختلفة، فكان نظام تكميم الأفواه والتعدي على حريات التعبير واضحا، ناهيك عن أن الانتخابات البرلمانية جاءت تعبيرا عن طريقة عمل هذه السلطات وانعكاسا لرؤيتها فجاءت ضعيفة ومهمشة وغير قادرة على القيام بواجباتها الاشتراعية.
ومن الملاحظات الفارقة أن كل النظم الجمهورية الثورية زعمت تحرير فلسطين والوحدة العربية، والتحرر الاقتصادي، وتبنت الخيار الاشتراكي، والاستقلال الوطني الناجز، والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة والتقدم الحضاري والثقافي، إلا أن الواقع يشير إلى تقاسم النفوذ في الموضوع الفلسطيني فظهرت تنظيمات فلسطينية حسب توجه كل دولة، وأن دولة الوحدة ذهبت إلى الانفصال والاقتتال، وظهرت معالم الطبقية الحادة داخل المجتمع، واستأسد الحزب الواحد، وانحصرت السلطة في الأبناء والأقارب، وظهرت السجون والاغتيالات والمعارضة الخارجية، وعلى الناحية الأخرى للمشهد العربي الجديد، ففي وقت تودع الجمهوريات رؤساءها بالشتائم والمحاصرة وتطالب برحيل النظام، تحتفي الملكيات وشعوبها بعودة الملك بكل الاحترام وبكل معاني الحب والولاء، في وقت يختفي في الثورات الجديدة شعارات التحرير وفلسطين، وتصبح مطالب الشعوب أكثر واقعية وقابلة للتنفيذ.
المطالب الشعبية تتمثل في محاربة الفساد والانتخابات النزيهة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وإتاحة الحريات السياسية والإعلامية، ومحاسبة المسؤولين عن الفوضى، ورفضها سياسة التوريث والزعامة للأبد وبما يخالف الدستور، ولهذا فإن الثورة أو الفوضى أو الحرب الأهلية سببها انسداد الأفق في النظام السياسي وتطلعاته غير المشروعة.
الدكتور حسن نافعة يشير إلى ذلك بوضوح بقوله ''من المعروف أن السلطة لا تورث إلا في النظم الملكية، ولأن دستور جمهورية مصر العربية ما زال، حتى إشعار آخر، يعتبر نظامها السياسي جمهوريا، وبالتالي يحق للشعب أن يختار رئيسه بنفسه، غير أن النظم الجمهورية ليست كلها نظما ديمقراطية بالضرورة، حيث تحولت الانتخابات أو ''الاستفتاءات'' في العديد منها إلى عملية صورية بحتة لا تعكس نتائجها الإرادة الحقيقية للشعوب، بل إن بعضها وصل حدا جعل تداول السلطة فيها يبدو محصورا داخل نطاق أسرة أو عائلة بعينها.
غير أنه وبالرغم من أهمية السلطة السياسية كمظلة للقانون والأمن بالنسبة للمجتمعات، فإن السلطة في عالم ثورات التقنية والثورات الاقتصادية والمعرفية والمعلوماتية، أصبحت سلطات ولم تعد سلطة واحدة، وأصبحت السلطة السياسية ليست انعكاسا لهذه السلطات وتعبيرا عنها وإنما أصبحت تكتسب شرعيتها من خلال هذه السلطات، ونظرا لغياب قنوات الاتصال والحوار وإشارات المرور الحقيقية، فإن كل سلطة بدأت تبني لها إطارا تفاعليا لها، يعزز وجودها وتأثيرها، وأصبحت سلطة الإعلام الفضائي والإعلام الجديد، من السلطات المؤثرة، ناهيك عن سلطة التواصل الاجتماعي عبر ''الفيسبوك'' و''التويتر''.
المشكلة أن هذه التحولات لم تقرأ ولم تأخذ بالحسبان في مختلف الدول، وأن العولمة سهلت لهذه القوى الجديدة التفاعلية السياسية والثقافية، وبدأت ثمة أفكار عالمية لا غنى عنها محليا، وأصبح الشباب يتعاملون معها بحيوية ودون رقابة، ويعبرون عن أنفسهم من خلالها، وكشفت هذه التحولات أن الجملوكية ليست انسدادا فقط وإنما انفصال عن الشارع أيضا، مثلما انفصل عنها الشارع بأدواته، كما أنه من الملاحظ أيضا أن هذا الجيل رفض العيش في جلباب أبيه، فرفض الحزبية النمطية والتقليدية، وطالب بحزبية وأطر جديدة تستوعب أفكاره وتعبر عنه، مثلما حاول البعض مصادرة آماله وأحلامه على قاعدة يحرك الحالمون والمفكرون الثورات ويقوم بها العاطفيون والمجانين ويقطف ثمارها الوصوليون والانتهازيون، فهل تسرق ثورة شباب مصر وثورة شباب ليبيا، وهل تؤدي هذه الثورات إلى الأمن والاستقرار الذي يرغب به أي مجتمع، ولماذا أصر مبارك حتى اللحظة الأخيرة على تقديم التنازلات القليلة؟ ولماذا لم ينجح على الأقل في تفادي حمى الاحتجاج، وأين هي مراصده وتحليلاته، ولماذا يؤمن الرئيس الليبي بالثورة الدائمة، ولماذا لا تتحول الثورة إلى دولة مدنية، ألا تكفي السنوات الـ 40 لقيام المؤسسات والمجتمع المدني، ولماذا نستعيد بلحظات منطق الأرض المحروقة وعلى قاعدة أنا ومن بعدي الطوفان، ولماذا تظل الملكيات أكثر قدرة على المأسسة واحترام القانون والحوار والمشاركة من غيرها من النظم؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي