في مفهوم اقتصاد المعرفة (1 من 2)
الدور المعلوماتي والمعرفي المهم في الاقتصاد، تواصل قديما، خاصة في خلق الثروة، إلا أن ما استجدّ في هذا الخصوص، هو تضاعف حجم المساحة التي تحوزها المعرفة في هذا الاقتصاد، وهو تعاظم دوره مما سبق وأكثر عمقا مما كان معروفا وملموسا!
سلفا، اُستُخدمت المعرفة في تحويل الموارد المتاحة إلى سلع وخدمات في إطار محدود، أما الآن وفي ظل اقتصاد المعرفة لم يعد ثمة حدود لدور المعرفة لتحويل هذه الموارد، إنما تجاوز دورها كل حدود، وباتت تخلق موارد جديدة، لا تكتفي بتحويلها المتاح فقط، وتجاوز ذلك، فباتت تشكِّل أحد عناصر الإنتاج، وربما العنصر الأهم أو الأضخم في العملية الإنتاجية مقارنة بالمدخلات الأخرى المادية. ولعل ما ساعد على تطور دورها المتعاظم، التطور المذهل في العلوم والتقنية، التي حقّقت شكلا من أشكال التراكم المعرفي التي حازته الدول المتقدمة في الغالب، الذي صاحبه، وصدر عنه تطوران في غاية الأهمية: الأول، التراكم الرأسمالي؛ والثاني، السرعة المذهلة في التقدم العلمي والتقني، الذي تجسد في تقنية الاتصال وثورة المعلومات.
وقد نشأ اندماج كبير بين مجموعة من الظواهر والمفاهيم للتعبير عنها. من هذه المفاهيم: اقتصاد المعرفة، والمعلومات، المتسم بثقافة التقنية الرقمية...، وهو الاقتصاد الجديد، القائم على المعرفة، والمعلومات، الذي يتأسَّس على رأس المال البشري، والثقافة المعلوماتية.
اقتصاد المعرفة هو الذي تفرز فيه المعرفة المكوّن الأعظم من القيمة المضافة. وإضافة المعرفة إلى الاقتصاد، تعطي مكونا أساسيا في العملية الإنتاجية كما في التسويق، وإضافة المعرفة إلى الاقتصاد، يعني مضاعفة وزيادة نمو هذا المكون والمزيج الذي ينهض على أكتاف تقنية المعلومات والاتصال، وبوصفها المنصة الأساسية التي يطلق منها.
هذا المفهوم، يمايز بين نوعين من هذا الاقتصاد، الأول: اقتصاد المعرفة، القائم على المعلومات من الألف إلى الياء، بوصف المعلومات عنصرا وحيدا في العملية الإنتاجية، والمنتج الوحيد أيضا في هذا الاقتصاد، الذي تشكّل أساليب إنتاجه وفرص تسويق مجالاته المعلومات وتقنياتها. وربما المقصود بالمعلومات، فيه هنا مجرد الأفكار والبيانات DATA وربما البحوث العلمية والخبرات والمهارات، وكلاهما صحيح. المهم أن هذا الشكل من الاقتصاد هو نفسه اقتصاد المعلومات أو الاقتصاد الرمزي، وهو نفسه اقتصاد ما بعد الصناعي.
النوع الآخر هو الاقتصاد المبني على المعرفة والمعلومات الممزوج بتقنيات الاقتصاد التقليدي، الذي تنهض فيه المعرفة بدور في خلق الثروة. لكن ذلك ليس بجديد؛ فقد ظل للمعرفة دور قديم ومهم في الاقتصاد، لكن ما أضافته كما ذكرت أن حجمها اتسع، ومساحتها باتت عريضة، أكبر مما سبق وأكثر عمقا مما كان معروفا.
ورغم البون الكبير بين هذين النوعين؛ فإن التوظيف الشائع لمصطلح الاقتصاد الجديد أو اقتصاد المعرفة يشمل كلا النوعين أو يقصدهما معا. ورغم هذا الاختلاف؛ فإنهما يشتركان في وجوب توافر رأس المال البشري ويُقصد به المهارات والخبرات التي تحوزها الموارد البشرية؛ كما يشتركان في ضرورة توافر مزيج معين ثقافة المعلومات، وهي القيم المنشودة للتعامل مع عصر المعلومات، شروطهما معا تطبيق نظم التقنية الفائقة، أو البحث والتطوير؛ أو العقول البشرية الذكية، شأنها في ذلك شأن الثقافة والتعليم والبنية الإلكترونية من بين شروط أخرى عدة.
ويعكس هذان النوعان من الاقتصاد المعرفي طبيعة المكون المعرفي، بنسب متفاوتة، ولعل ذلك أوضح ما يكون في اقتصاد المعلومات، وأقل بيانا في الاقتصاد المبني علي المعرفة، وتشكّل هذه الطبيعة الخاصة لهذا المكون في تأثيره الواضح على نمط علاقات الإنتاج، ومن ثمَّ على تكوين المجتمع، والتوازنات فيه، وتتحدّد قيمة هذا المكوّن بتفعيله وليس اقتناءه أو حيازته، أو حتى اكتنازه، حيث إن قيمة المعرفة تساوي صفرا مع مرحلة الاكتناز!
في هذا المكوّن المعرفي، يحرر اقتصاده من إشكالية الندرة، تلك المشكلة التي عاش لها وبها علم الاقتصاد، إذ لا يتوافر في المعلومات ولا في المعارف عموما ندرة، بل إنهما يزدادان طرديا مع الاستخدام، فاستخدام المعلومات يولّد المعلومات، واستخدام المعرفة يخلّق المعرفة. كما يشترك الاقتصادان كذلك في قدرة هذا المكون على الإفلات من القيود الاقتصادية كافة، بما يجعلها أقلها تعرضا لهذه القيود.. ثم استطاعة هذا المكوّن على ابتكار أنماط جديدة من الطلب عليه.
إن اختلاف تأثير هذا المكوّن المعلوماتي والمعرفي وفقا لنوع الاقتصاد ينشئ بين النمطين المذكورين فوارق موضوعية أكثر عمقا من أوجه الاختلاف السابقة، ولا يجدي فيها أوجه الاتفاق المرصودة أعلاه؛ فالأول: اقتصاد المعلومات، يشكِّل اقتصادا مستقلا كلية عن الاقتصاد التقليدي، الذي من شأنه إعادة هندسة المجتمع تماما وبشكل متأصّل، ويظل حكرا على الدول المتقدمة، بخلاف الاقتصاد النمطي المبني على المعرفة بعد التطوير، الذي يُفضي إلى تطوير المجتمع ولا يمكن أن تحتكره دولة معينة!
بذلك يكون اقتصاد المعلومات اقتصادا احتكاريا، ويدلل على ذلك حجم صناعة المعلومات في العالم الآن يتجاوز ثلاثة تريليونات دولار، تمثّل ما نسبته نحو 60 في المائة من الناتج القومي للدول الصناعية، والدليل كذلك هو الفجوة المعرفية، التي تشكّل المسافة الشاسعة بين دول الشمال والجنوب فيما يمتلك كل طرف من المعارف، والفجوة الرقمية، التي توضح الفارق بين الجانبين في معدلات استهلاك التقنية الرقمية. ومن المرجَّح استمرار هذا الاحتكار على دول الشمال المتقدمة! وما لم تعتمد الدول النامية، على الاقتصاد المبني على المعرفة، غير أن القضية تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة!