استثمارات وقروض خارجية أم تنمية محلية؟

لا ينقصنا اليوم مال, ما نحتاج إليه هو ترتيب للأولويات وإرادة لتحقيقها. إقراض المواطنين لتمويل احتياجاتهم الضرورية ولتمويل فتح أبواب رزق كريمة, كما حدث في الطفرات الاقتصادية السابقة, مطلب في تحققه الكثير من المنافع التي تفوق بكثير ما يتم صرفه في أوجه لا تتوازى مع ترتيب الأولويات. أما الأدوات فلا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة فلنا سوابق جميلة، ومن أهم تلك الأدوات الممكن أن تستخدم لتحقيق الأهداف الأكثر إلحاحاً: الصناديق الحكومية التمويلية, مثل صندوق التنمية العقاري والتنمية الصناعي, اللذين أقترح أن يعاد التعامل معهما بتفكير جديد.
فالبنسبة لصندوق التنمية العقاري أعتقد أنه آن الأوان لغسل غبار الماضي عنه، ومده بتمويل ضخم لإشباع حاجة السكن, التي تعتبر أساسية لكل مواطن. لهذا أقترح أن تقوم الدولة بضخ 200 مليار في صندوق التنمية العقاري حتى لا ينتظر المواطن سنوات، بل يجب ألا تتعدى أشهرا معدودات للحصول على القرض، يتزامن مع ذلك، نثر باقة من الحوافز والضوابط لتحقيق الأهداف المتوخاة من ضخ كمية هائلة من السيولة في أيدي المواطنين حتى لا تسهم بآثار عكسية كارتفاع الأسعار. فمثلا، من المناسب أن يتم رفع حجم مبلغ القرض وربطه بمواقع جغرافية محددة والسماح بالإقراض لشراء الوحدات السكنية الجاهزة. ومن الأنسب أن تكون هناك حوافز مغرية للسكن في المدن الصغيرة المتاخمة للمدن الكبرى، فيعطى من يريد السكن في المزاحمية أو حريملاء مثلا قرضا بشروط أيسر ممن يتقدم لقرض في مدينة الرياض، عبر إطالة مدة السداد، وقيمة القرض (800 ألف مقابل 400 ألف)، وغيرها من الحوافز التي تشجع على إعمار المدن الصغرى.
لا بد أن تترافق مع تلك المبادرة، كذلك، حزمة من الأدوات التشجيعية لإنماء تلك المدن، عبر تقديم حوافز (قروض ــ أسعار كهرباء مخفضة، تأمين طبي... إلخ) للمنشآت الصناعية والصحية والترفيهية مثلا، لدفعهم للاستثمار في تلك المدن حتى تكون أماكن مرغوبة للإقامة. ولهذا من المهم أن يتم ضخ 200 مليار في صندوق جديد يسمى صندوق التنمية المحلية لتمويل المشاريع الإنمائية بأطيافها كافة, التي تستهدف الشريحة المتوسطة، الصناعي منها وغير الصناعي ما دام سيحقق الهدف المراد, وهو فتح أبواب رزق للشريحة المتوسطة، فيكون من مهامه تمويل إنشاء العيادات الطبية، الورش، المحال التجارية، مكاتب المهنيين، الخدمات الترفيهية، وكل شيء يسهم في توطين الشريحة المتوسطة في المدن الصغيرة، ويساعد على جعلها أماكن جذابة, وليس فقط صالحة للعيش، فالصحاري يمكن العيش فيها لمن يضطر أو يرغب, لكن ما نريده هو أن يكون هناك تدافع للإقامة في المدن الصغيرة.
ربما ستقول وزارة المالية 400 مليار مبلغ ''ضخم'', لكن ربما تتغير القناعات إذا عرفنا أن الصندوق السعودي للتنمية يقوم بـ: ''المساهمة في تمويل المشاريع الإنمائية في الدول النامية عن طريق منح القروض لتلك الدول'' وفقاً لنظامه الأساسي. فهل يعقل أن نسهم في تنمية دول ونتلكأ عن زرع بذور تنمية محلية؟ أرجوكم ألقوا نظرة على الموقع التالي الذي يبشرنا بتمويل سد في المغرب ومركز طوارئ في كينيا وتأهيل مستشفى أمراض نساء في طاجكستان والطريق الدائري لجزيرة فوجو فقط في عام 2009، وهو العام الذي قام فيه الصندوق بدور تمويلي كبير, حيث زاد ما قدمه من مبالغ القروض خلال 2009 بنسبة 126.64 في المائة ''نتيجة للأزمة المالية العالمية وتأثيراتها الحادة في الدول النامية بشكل واضح, خاصة بعد الانخفاض في تدفق المعونة الرسمية من الدول والمؤسسات المانحة إلى الدول النامية'' كما ورد في موقع الصندوق! http://www.sfd.gov.sa/loan.htm
أيضا يكون الاعتراض غير مقبول على تمويل هذا المقترح أو ما يشابهه إذا عرفنا حجمنا المالي. ولن أتكلم عن الميزانية الضخمة, بل سألفت أنظاركم إلى استثمارات المملكة في الأوراق المالية الخارجية, التي وصلت إلى 1.81 تريليون في آخر ربع من عام 2010. وإجمالي الموجودات بلغ 1.75 تريليون. أيعقل يا كرام أن نستثمر أكثر من 1.1 تريليون في أوراق مالية في الخارج بنسب فائدة متدنية جدا وقائمة انتظار المتقدمين لصندوق التنمية العقاري تجاوزت نصف المليون؟ لا أعتقده معقولا ولا منطقياً. والمعقول/الواجب هو أن يتم تسييل تلك الأموال ــ كلها ولا تبقى ولا هللة واحدة ـــ بشكل محسوب وتحويل مسارها إلى فيافي مملكتنا الحبيبة للإنفاق علينا، فالموجودات الخارجية إذا لم تتم الاستفادة منها لسد حاجة ضرورية محلية فستبقى مجرد حفنة أوراق، أو ينتفع بها بنك خارجي أو شركة متعثرة دولية قد تفلس في أي لحظة أو يأكلها التضخم الملتهب أو فوارق العملة المتأرجحة. زد على هذا أن هؤلاء المحتاجين مستعدون لدفع نسب فوائد وعوائد أفضل على تلك الأموال المستثمرة خارجيا, التي أتحدى أن تحصل على أكثر من 5 في المائة. والبدائل التمويلية الأخرى متعددة منها، قيام البنوك بهذه العملية مع التزام الدولة بسداد الفائدة وضمان سداد المقترضين. ويمتاز هذا الخيار بأن الفائدة اليوم متدنية في كل بقاع الأرض, وبالتالي، فالاقتراض سيكون بتكاليف منخفضة جدا وسيكون مغريا لاجتذاب سيولة عالية ـــ عالمية وليس فقط من بنوكنا المحلية ذات المناشير ـــ تكفي لتغطية الاحتياج السكني كله. ما أود قوله ـــ وأنا لست مالياً ـــ إن الأدوات التمويلية متيسرة.
إذا عرفت أنا كطبيب ـــ مثلا ـــ أنني سأحصل على قرض لبناء أو شراء منزل بمبلغ 700 ألف ريال في مدينة تمير مثلا ـــ 120 كيلو مترا عن الرياض، وسأحصل على قرض لتمويل فتح عيادة مناسبة بمبلغ 300 ألف ريال مثلا، وسيكون في المدينة سوق ومستشفى ومدرسة وجامعة, وربما فرصة عمل لولدي في مصنع مجاور, فما الذي يمنعني من الانتقال من غلاء الرياض وديمومة الاستئجار وازدحام الطرق؟ لو كانت تكلفة إقراض المواطن ستكون مليون ريال ـــ سكن وعمل ـــ سنستطيع سد حاجات 200 ألف مواطن/عائلة فقط بمبلغ 200 مليار تقدم لهم كـــ: ''قروض''. وكل هذا ولم نتحدث عن الميزانية، فقط عبر نقل أموالنا من الخارج إلى الداخل - تغير وجهة المستفيد من خارجي إلى محلي. ألا يستحق 200 ألف مواطن/عائلة أن نغير سياستنا المالية؟
الموضوع هو في كيفية توجيه أموالنا: هل نبقيها في استثمارات وقروض خارجية حكومية تعطي الفتات ـــ إن أعطت ـــ أم ننثرها في رحم أرضنا الغالية؟ الجواب مرتبط بالإرادة في تحقيق هدف يستمر أثره لسنوات ويشمل شريحة مهمة رعايتها وتعضيد استقرارها، ولنا في الطفرات الاقتصادية السابقة دروس جميلة تستحق أن يحتذى بها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي