نحو بلورة مشروع وطني في مجال التعليم (1 من 2)

استطاع مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، أحد منجزات خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، متّعه الله بالصحة والعافية، أن يتفوق على نفسه، حينما قام بتنظيم لقائه حول الخطاب الثقافي السعودي الثالث ''القبلية والمناطقية والتصنيفات الفكرية''، خلال يومي الثلاثاء والأربعاء 22-23 محرم 1432هــ في مدينة جدة، من خلال تكريسه لثقافة الحوار في المجتمع السعودي، وإرسائه نمطًا وطبعًا من طباعه، رهانًا أساسيًا لعمله، في ميدانه الحوار الوطني الأوسع.. والمركز إنما يقوم بهذه المهمة، إنما يسعى، في رأيي، إلى تعزيز التنوع الثقافي الوطني كرهان أساسي لعمله الثقافي؛ لأن التنوع حتى يكون خلاَّقًا؛ يجب أن ينشأ على قاعدة القبول بالآخر وثقافته والحوار معه، طريقًا للمعرفة والود المتبادل؛ فلا يمكن للتنوع الثقافي أن يحيا بالانكفاء على الذات أو المواجهة.
وفي يقيني أن المركز لم يتوان في بذل المزيد من الجهد على تنمية برنامج الشراكة المجتمعية مع مؤسّسات المجتمع كافةً؛ لترسيخ هاتين المهمتين المذكورتين: الحوار وتعزيز التنوع الثقافي، الذي تمتاز به بلادنا العزيزة على نفوسنا جميعًا.. من شراكات مُبتَكرة بين المركز ومؤسسات المجتمع الرسمي والمدني.
وأعتقد أن هذه التنويعات الثقافية المختلفة سواءً كانت مناطقية أم قبائلية أم مذهبية أم غيرها لها اعتبار كبير للذات الثقافية، ما لم تهيمن عليها النظرة الطائفية، والعنصرية الضيقة، وما تطغى عليها؛ فإنها حتمًا ستصبح رؤية متعصبة للذات؛ إذ تسعى كل ذات ثقافية إلى أن تهيمن على المكونات الأخرى!
وتنبني على هذه الأسس، وتبرز قيمة المواطنة كحماية طبيعية ومضاد أكيد يحول دون سيادة تيارات التطرف، والتعصب لهذه الذات لتعيدها إلى اتساقها الثقافي الطبيعي والمنشود.
أؤكد، على الجانب الآخر، أن المبالغة في إلغاء أو تجاهل أو تسفيه، والتقليل من تلك التكوينات الثقافية المتنوعة من أجل الرفع من قيمة الوطنية الواحدة هو في رأيي نوع من رفض ثقافة الاختلاف، التي تعد أساسًا، رفضًا لقيمة التعايش، التواؤم؛ فالتنوع الثقافي يتجاور فيما بينه؛ ليخلق ثراءً ثقافيًا، يعزِّز من قيمة التكوين الأعلى، ويأتي الدور الرسمي مهمًا في تحقيق ذلك التوازن بصفته الحاضن الفعلي لتلك الثقافات الخاصة.
وتصبح الضمانة الوحيدة لهذه التكوينات الثقافية والأطياف البديعة، أن تعبِّر كلٌّ منها عن ذاتها بوصفها جزءًا أساسيًا يمكن له أن بامتزاجه، وأن يمثِّل الجميع مع قابلية الاختلافات بين الأجزاء والتكوينات الأخرى، والتعايش؛ لتصبح جميعًا مصادر ثرية حقيقية للكيان العام الذي أفرز هذه التكوينات ووظّفها التوظيف المثالي دون أن يهيمن مكوِّن آخر.
وأشير إلى الفتنة الصعبة التي يعبّر عنها بعض أبناء الوطن في فعاليات ومنتديات قبلية ومناطقية كثيرة، وهي فتنة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث، فضلاً عمّا تعرضه بعض القنوات الفضائية، وخاصة الشعبية منها بآلياتها من رسائل نصية، إلى جانب ما تخطه بعض المواقع الإلكترونية والمنتديات العنكبوتية، التي تنضح بالتعصب الفاضح والفادح انتصارًا للقبلية والمناطقية، فضلاً عن بروز مظاهر سلبية، تجذّر هذا التعصب دون محاولات ملموسة؛ للحد منها أو حتى تشذيبها، والتي خرجت عن الطابع المألوف ومنها: مهرجانات مزايين إبل القبائل، وفعاليات ''الشعر القبلي''، الذي تروج له اليوم بعض القنوات الفضائية الشعبية.
وبرصد المقالات والأحاديث التي تمت خلال الفترة الماضية، وعقب انعقاد لقاء الخطاب الثقافي الثالث السعودي؛ يدرك أن هناك إدراكًا عامًا بخطورة ما نحن فيه ومعظم ما كتب من مقالات وما أذيع من أحاديث يصبّ في بوتقة المحافظة على وحدة الوطن وإدانة التطرف بكل صوره، واعتبار أن هذه المظاهر السلبية، شذوذًا عن القاعدة العامة لا بد من محاصرته وتطويقه ومعالجته بما يستحقه من اهتمام.
وبالرغم من ذلك، ما زالت البرامج التنظيرية، تجيّش خطاب تمييز قبلي؛ ما يدعو إلى تحجيم قيم الحوار وامتهان مبادئه من أجل ذاتها وأفكارها؛ ما يدفع البعض إلى التجاوز على حقوق الآخرين وكراماتهم؛ فضلاً عن تضخيم الحالة الذاتية ونبذ الآخر وإقصائه!
ويفرض التساؤل التالي نفسه الآن: هل في إمكان هذه الفتنة المحنة، أن توحدنا جميعًا إزاء هذه المظاهر السلبية، بمواجهتها، بحيث تنجو منها مملكتنا، أم أن عكس ذلك هو الذي سيحدث، وستنتهي المحنة بما لا يُحمد عقباه لوحدتنا الوطنية، ويعانى مواطنونا كله مصيرًا مجهولاً، الله أعلم بنهايته!
ولعلي أقترح أن تطبع فعاليات هذا اللقاء الثقافي الثالث، وأن يتم توزيعها على طلبة المدارس الثانوية، وعلى طلبة الجامعات وأن تعقد حوله ندوات عامة. وعلى الجانب الآخر؛ أن يتم تحرك وطني على مستوى المؤسسات الأهلية، يضم العديد من التوجهات الفكرية والثقافية؛ لكي تقيم سياجًا يحافظ على الوحدة الوطنية ويدعمها، والتشاور والتحاور وإبداء الرأي في اتجاه تدعيم البنيان السعودي وإصلاح ما حدث فيه من خلل عارض..!
كما أقترح بلورة مشروع تعليمي وتربوي للمواطنة، يُطبَّق في مدارس التعليم العام، واستثمار منصب معالي الأمين العام للمركز، والذي يشغل في الوقت نفسه، منصب النائب العام لسمو وزير التربية والتعليم؛ إذ لابد أن يعرف قادة الوزارة أن أمامهم واجبًا كبيرًا؛ لكي تعود المدرسة السعودية إلى ممارسة دورها في دعم المواطنة وتعزيز الانتماء الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي