غرق جدة الثاني!
غرقت جدة مرة أخرى بأكثر من غرقها في العام الماضي، وستغرق بشكل أعظم في العام القادم إن لم نضع حدا لمأساة نقص بنيتها التحتية! من الصعب على المرء أن يصدق أن إحدى أهم مدن المملكة ومرفأها الأول وبوابتها نحو الحرمين الشريفين، تفتقر لشبكة صرف صحي وقنوات تصريف سيول متكاملة! ما أذهل الناس وصدمهم وآلمهم هو أن فاجعة جدة الثانية لم تأت تبعا لكارثة استثنائية غير معتادة على نحو ما هو معهود في الأعاصير والفيضانات الخارجية وتداعياتها، وإنما ــــ كما جاء في البيان الملكي الذي صدر بعد كارثة العام الماضي ــــ نتيجة أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية على الرغم من أن معدلها كان قياسيا!
الفاجعة أكدت مقدار ما تفتقر إليه هذه المدينة من نقص في بنيتها التحتية الأساسية. وهي ثغرة تزداد عمقا مع نمو أعداد سكانها، وكثافة الهجرة إليها، وتمدد أحيائها في مواقع غير صالحة للسكن، وهو أمر ما فتئ يحذر منه محبو المدينة وأصحاب الرأي فيها. لقد شاخت هذه المدينة، وتهلهلت خدماتها، وأصيبت أجهزتها بالشلل. كما كشفت الأيام أن نصيب هذه المدينة البائسة من الفساد كبير وحظها منه تليد، ما أثخن جراحها.
ليس من الوفاء لبلادنا ولا لمؤسسها التهاون فيما يهدد أمنها وسلامة استقرارها الاقتصادي والاجتماعي. الذين اتخذوا منها شاة حلوبا دون أن يراعوا في الله إلاً ولا ذمةً، هم ألد أعداء المجتمع وإن كانوا منا وفينا. لقد استباحوا رقاب الناس واستهانوا بصحتهم وحقوقهم الأساسية في المأكل والمشرب والمأوى، حتى غدت السيول تدهم أحياء مخططة وليست عشوائية، لكنها أحياء أقيمت على تخوم الأودية وبطونها ونهاياتها، وأخرى تمر فوقها كابلات الضغط الكهربائي العالي.
إن لكوارث جدة المتكررة أبعادا أعمق مما ظهر منها، وإن أردنا إنقاذ بلدنا فعلينا سرعة إصلاح جميع مؤسسات المجتمع التنفيذية والرقابية والقضائية التي تمنع حدوث مثل هذه المفاسد ابتداء. لقد تجرد الفاسدون من مخافة ربهم، وهؤلاء لا يجدي معهم سوى سيف العدالة والحق. صحيح أن الفساد المالي والإداري لا يخلو منه مكان ولا زمان، بيد أن درجاته متباينة، ومسؤوليتنا القضاء عليه أو على الأقل تحجيمه بالأنظمة والمؤسسات لأدنى حد ممكن. والعالمون بقوانين الاجتماع البشري يدركون أن معظم الناس حتى في الدول التي يسودها القانون وتحكمها المؤسسات يخضعون للقوانين ويطيعونها، لا إيمانا بفائدتها على السلم الاجتماعي، وإنما خوفا من العقوبة. وقد قيل إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وجدة المنكوبة تنتظر الآن جهودا سريعة تتخطى الروتين وتسابق الزمن لإنقاذ الناس وتضميد جراحهم ومعالجة صدماتهم. جدة في حاجة إلى هيئة عليا لتطويرها. كما أنها بحاجة إلى خطط طوارئ وإدارة كوارث على نحو أكثر كفاءة.
حين حلت الكارثة بجدة، وامتلأت طرقاتها وأنفاقها بالمياه الجارفة، وتغيرت ملامح المدينة وغرقت البيوت وجرفت السيارات وتعطلت الحياة، لم تكن الأمطار الغزيرة بذاتها هي السبب الحقيقي للكارثة، بقدر ما كان بسبب السيول التي تدفقت إلى جدة عبر الأودية، التي كانت نهاياتها قد سدت على مر السنين بالمخططات والمباني والتعديات على مصارف تلك الأودية. الأمر الذي أعاق حركة السيول الطبيعية ووجهها نحو المدينة بدلا من أطرافها الخارجية.
والمسؤول عن هذا الوضع هو الفساد الذي قاد للإهمال التاريخي والتقصير المستمر عن عمل ما كان يجب عمله. لا يصح أن نتعجب من وقوع الكارثة، فليس ثمة مجال للعجب، لقد حصدنا ما زرعنا. لقد دفعت جدة وما زالت ثمنا غاليا من أرواح ساكنيها وممتلكاتهم لأننا سكتنا عن الفساد أعواما طويلة!
كم نحن في حاجة ـــ بعد تضميد الجراح ــــ إلى وضع النقاط فوق الحروف، واستيعاب الدروس كافة، والبدء بمحاسبة النفوس. إن هذه إرهاصات تشير إلى ما هو أخطر إن نحن تباطأنا في علاج أحوالنا أو تأخرنا عن إصلاح مؤسساتنا. يبعث الله لنا كل حين تحذيراته ونحن عنها غافلون.