الصومال بين خطر الفوضى والتقسيم.. أي مستقبل!
يبدو أن الدراما الصومالية التي تكررت مشاهد فصولها العبثية منذ انهيار حكومة الرئيس محمد سياد بري عام 1991 اتخذت منحى جديداً ينذر بأن يصبح حلم الصومال الكبير عصياً على التحقيق، وأن بلاد ''العطور والبخور'' مقبلة لا محالة على الانهيار والتقسيم. ففي منتصف كانون الثاني (يناير) الحالي أعلنت ولاية بونت لاند التي تحظى بحكم ذاتي منذ عام 1998 عن فك ارتباطها السياسي والإداري مع الحكومة الصومالية الانتقالية بزعامة شيخ شريف شيخ أحمد. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، حيث أصدرت إدارة الولاية قراراً لاحقاً تمنع بموجبه كل من له صلة بالحكومة الصومالية الفيدرالية في مقديشيو من التواجد على الأرض الخاضعة لسلطانها. أحسب أن هذا التصعيد الأخير بين بونت لاند التي تقع في الشمال الشرقي من الصومال وحكومة مقديشيو قد يعني خطوة في اتجاه انفصال كامل للشمال الصومالي، وذلك بعد إعلان إقليم أرض الصومال (الشمال الغربي) عن انفصاله الرسمي في بدايات الأزمة الصومالية عام 1991.
مقدمات التقسيم
وعلى أية حال فإن المتابع للشأن الصومالي يجد أن التطور الأخير ما هو إلا نوع من المقامرة السياسية وتغليب لغة المصالح الشخصية والعشائرية التي أضحت تعد أحد الملامح البارزة للخطاب السياسي الصومالي على مدى العقدين الماضيين. ويمكن فهم قرار فك الارتباط بين بونت لاند والحكومة الفيدرالية على ضوء عدد من المتغيرات المهمة لعل أبرزها أمران:
أولهما: إجبار الرئيس الصومالي الانتقالي عبد الله يوسف، وهو من بونت لاند، على الاستقالة في كانون الأول (ديسمبر) 2008 عام. وحينما تولى شيخ شريف شيخ أحمد رئاسة الصومال في كانون الثاني (يناير) 2009 أصبح عبد الرحمن فرولي رئيساً لإقليم بونت لاند. وهنا يمكن تلمس أول بوادر التوتر السياسي، حيث اتهمت بونت لاند الحكومة الفيدرالية بحرمانها من حقها في المشاركة والتمثيل والتشاور وفقاً لمقررات عملية سلام جيبوتي عام 2008 والتي أفضت إلى تشكيل الحكومة الصومالية الحالية.
ثانياُ: الاختلاف على قسمة المزايا والمساعدات التي يقدمها المجتمع الدولي للصومال. فثمة اعتقاد راسخ لدى الساسة في ''بونت لاند'' أن إقليمهم قد تم تهميشه وحرمانه من المبادرات وحملات التمويل الدولية التي تقدم بهدف إعمار وتنمية الصومال ككل، بما في ذلك برامج التدريب السابقة والحالية لقوات الأمن الصومالية في دول الجوار الإفريقية مثل أوغندة وكينيا وجيبوتي. وقد ازداد الطين بلة في نهاية العام الماضي مع تعيين رئيس الوزراء الصومالي الحالي محمد عبد الله محمد، حيث رأت ''بونت لاند'' أنه قد تم السطو على حصتها من المناصب الوزارية.
وتطرح ''بونت لاند'' نموذجاً واضحاً لإشكالية العائلية السياسية في الواقع العربي والإفريقي المعاصر. فإقليم بونت لاند يعد موطناً لعشائر ''المجرتين'' المهيمنة سياسياً واقتصادياً. ولذلك لم يكن خافياً أن التشكيلة الإدارية والحكومية للإقليم ظلت دائماً منذ إعلانه الحكم الذاتي عام 1998 تعكس المصالح والاحتياجات العشائرية في الدرجة الأولى. ومن اللافت للانتباه أن المشهد السياسي والاقتصادي لإقليم بونت لاند تهيمن عليه ثلاثة بطون كبرى لعشائر المجرتين، حيث تستقر كل واحدة منها في إحدى المدن الرئيسة في الإقليم. ففي العاصمة ''جروي'' مقر الحكومة توجد جماعة عيسى محمود التي ينتمي إليها الرئيس الحالي عبد الرحمن فرولي.
وفي مدينة بوصاصو التي تطل على خليج عدن، وتعد العاصمة التجارية للإقليم، توجد جماعة عثمان محمود التي ينتمي إليها الرئيس السابق الجنرال موسى عدي. أما مدينة جالكعيو فتسيطر عليها جماعة عمر محمود التي ينتمي إليها الرئيس الصومالي السابق عبد الله يوسف. لم يكن بمستغرب إذن أن توصف هذه الجماعات العشائرية الثلاثة الكبرى في إقليم بونت لاند بأنها من حيث المعنى والمبنى أحزاب سياسية مهيمنة.
بيد أن ما يميز تجربة بونت لاند عن نظيرتها في أرض الصومال هو طريقة الحكم والوصول إلى السلطة، فبينما طورت أرض الصومال تجربة ديمقراطية في الانتخابات التعددية وتداول السلطة بشكل سلمي نجد على العكس من ذلك في بونت لاند. إذ عادة ما تؤخذ السلطة فيها غلاباً، أي باستخدام القوة أو التهديد باستخدامها. ففي عام 2001 هاجم الجنرال عبد الله يوسف العاصمة جروي واستولى على السلطة عنوة. ولم يخرج الرئيس الحالي عبد الرحمن فرولي عن هذا التقليد، حيث وصل إلى سدة الرئاسة في الإقليم من خلال أساليب الترهيب والتهديد باستخدام القوة.
وثمة اتهامات متزايدة لحكومة الرئيس عبد الرحمن فرولي بالفساد والمحسوبية وإساءة استخدام السلطة. وتؤكد شواهد كثيرة على غياب مفاهيم المحاسبة والشفافية في إدارة الموارد العامة للإقليم. فقد اعتمد الرئيس اعتماداً كبيراً على ابنه محمد عبد الرحمن فرولي، حيث إنه أضحى الشخص الأكثر نفوذاً في بونت لاند. ويسيطر نجل الرئيس على وسائل الإعلام في الإقليم بما في ذلك ''جروى أون لاين''، كما أنه يمتلك نفوذاً واسعاً ولو بشكل غير مباشر على جميع القوى والأجهزة الأمنية في الإقليم.
تدافع دولي وغياب عربي
إن الناظر لخريطة القرن الإفريقي يجد أن إقليم بونت لاند يتمتع بموقع جيواستراتيجي مهم، حيث يطل على خليج عدن ومن ثم يرتبط ارتباطاً مباشراً بأمن البحر الأحمر، وبطرق الملاحة الدولية المفضية إلى قناة السويس. كما أنه يمثل من جهة أخرى، نقطة ارتكاز في عمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن. وإلى جانب هذه القيمة الاستراتيجية يتمتع الإقليم بقيمة اقتصادية، حيث يمتلك إمكانات وقدرات طبيعية هائلة، وهو ما دفع بحكومة الإقليم للدخول في اتفاقات للتنقيب عن النفط والمعادن مع عدد من الشركات الدولية منذ عام 2002. ولعل ذلك كله يفسر لنا سر التحركات الدولية والإقليمية التي تتجه صوب بونت لاند مباشرة دون المرور عبر بوابة العاصمة الفيدرالية مقديشو.
فإثيوبيا تمثل اللاعب الإقليمي الأبرز في أمور بونت لاند، حيث تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الإقليم تصل إلى حد المحاسبة والمساءلة. فالإقليم من وجهة النظر الإثيوبية يمكن أن يمثل حائط صد أمام انتشار تأثير ونفوذ شباب المجاهدين وغيرها من جماعات الإسلام السياسي إلى الأراضي الإثيوبية. وتفيد بعض التقارير أن وزير الخارجية الإثيوبي سيوم مسفين قد عرض على رئيس بونت لاند عبد الرحمن فرولي بعض التقارير الاستخباراتية التي تؤكد تورط بعض المسؤولين والوجهاء في بونت لاند في تمويل جماعات المعارضة الصومالية ومنها جبهة تحرير أوغادين، وطالبه بضرورة التصدي لمثل هذه الظواهر.
ونظراً للاستقرار النسبي للإقليم مقارنة بأوضاع الجنوب المتدهورة، يطمح المانحون الدوليون في الاعتماد على حكومة بونت لاند لمواجهة مخاطر الإرهاب والقرصنة في منطقة القرن الإفريقي. وعليه فإن ثمة اتصالات أوروبية وإفريقية مباشرة مع ممثلي حكومة بونت لاند لمناقشة جميع تلك القضايا. ففي يوم 19 كانون الثاني (يناير) الحالي وصل رئيس بونت لاند على رأس وفد كبير إلى العاصمة جيبوتي. وقد شمل برنامج الزيارة الاجتماع بالمبعوث الدولي للصومال السفير أوغسطين ماهيجا، وكذلك السفير الأمريكي في جيبوتي جيمس سوان الذي طرح قضايا إنشاء قوة بحرية في بونت لاند لمكافحة القرصنة والإرهاب. على أن المثير للانتباه هو كلمات الممثل الخاص للأمم المتحدة في الصومال الذي أشاد بالدور الذي تقوم به بونت لاند، واعتبره نموذجا يحتذى بالنسبة لبقية الصومال.
وأحسب أن هذا التدافع الدولي على بلاد بونت يأتي في ظل غياب غير مبرر من الجانب العربي. ويبدو أن حالة فقدان الوعي العربي العام باتت تشير إلى أن الصومال أضحى بمشاكله التي لا تنتهي يثقل كاهل النظم العربية فلفظته واعتبرته شأناً غير عربي. ولذلك فإن كثافة التعاملات الإقليمية والدولية مع الشمال الصومالي بشقيه الشرقي والغربي، أي بونت لاند، وأرض الصومال تأتي والعرب لا يحركون ساكناً ويكتفون بالقول بأنهم مع وحدة وتكامل الشعب الصومالي. إننا في مرحلة لا تكفي فيها الأقوال بل تحتم علينا الفعل والتخطيط من أجل المستقبل.
آفاق المستقبل
إذا كانت الأزمة الصومالية قد اتجهت شيئاً فشيئاً لتصبح شأناً إفريقياً خالصاً، فإن الجامعة العربية اكتفت بوضع المشاهد والمراقب لما يدور. وعلى الرغم من أن خطوات ''أفرقة'' القضية الصومالية قد تم تأسيسها بتخويل الاتحاد الإفريقي مهام حفظ السلام والأمن في الصومال، فإنها اتخذت بعداّ جديداً في حزيران (يونيو) 2010 بتعيين سفير تنزانيا لدى الأمم المتحدة أوجستن ماهيجا ليصبح مبعوثاً أممياً في الصومال خلفاً للدبلوماسي الموريتاني أحمدو ولد عبد الله.
ومع ذلك فإن العرب إذا امتلكوا الإرادة والرغبة الصادقة في الدفاع عن مصالحهم الاستراتيجية، لأمكنهم إبقاء الصومال ضمن منظومة بيت العرب. فثمة مبادرة قدمها سياسيون وأكاديميون صوماليون ترى أن حل أزمة الصومال المستعصية يمكن أن ينطلق من شمال الصومال الذي ينعم بالأمن والاستقرار. وهنا يمكن تحقيق أمرين مهمين أولهما تعويض الشمال عن سنوات الحرمان والتهميش التي عاناها طوال مرحلة ما بعد الاستقلال. والثاني هو الاستفادة من تجربة تحقيق الأمن والسلم عبر آليات محلية، ودون تدخل أطراف دولية في شمال الصومال لتكون نموذجاً لباقي الأقاليم الصومالية. وأظن أن العرب سواء من خلال منظمتهم الجامعة أو الدول العربية الكبرى بمقدورهم ''تعريب'' الأزمة الصومالية وإيجاد حل عربي لها باعتبارها مشكلة عربية قبل أن تكون إفريقية. فهل نعي الدرس ومثال جنوب السودان ليس ببعيد عنا؟!