هناك طبيب شعبي .. فهل يوجد مهندس شعبي (كاوبوي)؟
لو سألت أحد الأطباء عن رأيه في الطب الشعبي لذكر لك معاناتهم مع ذلك الطب وعدد المرضى الذين اكتووا بناره, وأن هذا الطب يكتنفه الغموض في كثير من الحالات، وأن أكبر مشكلة لديه هو أن الطبيب الشعبي الذي يدعى في بعض الأحيان حكيما لا يعرف أي شيء عن الطب، وهم يدعون أنهم مخلصون عارفون, لكنهم في الحقيقة دجالون محتالون. وأذكر في هذا الصدد أن أحد الأطباء المتخصصين في علاج مرض السكري ذكر لي قصة لأحدهم في تبوك ادعى أن لديه خلطة سرية ما أن يلتهمها المرء كل صباح لمدة معينة إلا ويذهب عنه مرض السكري ويشفى إلى الأبد، وذكر لي أنه تم أخذ عينات من هذه الخلطة ليفك أسرارها فوجد أن هذا الطبيب الشعبي قد خلطها بأقراص من أدوية علاج السكري وأنه بهذا احتال على المرضى، إذ من الطبيعي أن المريض إذا تناولها ستنخفض لديه نسبة السكر بشكل ملحوظ، لكن السر هو في سعر هذه الخلطة وكيف أنه استغل ضعف المرضى وحاجتهم إلى علاج يستأصل الأمراض والمشكلات بشكل سريع وفوري بمثل هذه الخلطات.
أما في مجال الهندسة فهي لا تختلف عن الطب, لكن من المفارقات العجيبة والغريبة لدينا في المملكة أن من يمتهن مهنة المهندس الشعبي (أو الكاوبوي كما يسمى في بريطانيا) هم الأطباء, حيث يمارسون ذلك في كل وقت يتاح لهم حتى لتحسبهم وهم في عياداتهم يعالجون الهندسة بشكل شعبي ويحسبون أنهم مهندسون فيخططون بأقلام الرصاص وينسقون, وليس هذا فحسب, بل أصبحوا مصممين داخليين شعبيين يفتون في الألوان ومحطات التمريض وغيرها، ولست هنا أتحدث من فراغ, فلقد عايشت صنوفا من المهندسين الشعبيين (الكاوبوي)، بل حكى لي أحد الزملاء أن مسؤولا وكان (طبيبا) بعد أن جال في أقسام من المستشفى قبل الافتتاح توقف عند أحد الأقسام فقال إن هذه الألوان غير مناسبة, فرد عليه المهندس المعماري قائلا أنا مهندس معماري وأجد أنها مناسبة, وتمت دراسة الألوان من قبل استشاري المشروع فقال له المسؤول أنا طبيب وأقول إنها غير مناسبة فطلب تغييرها، بل إنني في إحدى الدورات الهندسية التي تتعلق بتصميم المستشفيات صادفت أحدهم (كاوبوي) حاضرا في قاعة التدريب, ولما جاءت فترة الاستراحة وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وقد ظننت للوهلة الأولى أنه مهندس, لكنه بادرني بالتعريف بنفسه وذكر لي أنه طبيب وجراح, فتعجبت لذلك كثيرا, إذ إن هذه الدورة لا تخصه أبدا، فقال لي: لا تعجب أنا الذي صممت مسكني الخاص وأيضا صممت مركزا متخصصا في الجراحة في المنطقة التي أعمل فيها، فقلت له: أيها الجراح هل تأذن لي أن أمسك المشرط وأن افتح بطن مريض وأنا لست جراحا؟ فقال لي: لا.. حتى ولو كنت طبيبا من تخصص آخر، فقلت: إذاً فلماذا أنت تمسك قلم العمارة وتعبث بالتصميم المعماري؟ وحينها تذكرت قول ابن حزم ـــ رحمه الله: من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه فيكون كغارس النارجيل في الأندلس وكغارس الزيتون في الهند وكل ذلك لا ينجب.
ولعلي أضيف أن (الكاوبوي) بطبيعة الحال ليس حكرا على الأطباء فقط، بل يشاركهم غيرهم من تخصصات مختلفة من أساتذة جامعات ومدرسين وموظفين وأصحاب المهن الأخرى, حيث إن مهنة الهندسة, خصوصا العمارة, في هذا الزمان كخيل مسرجة في مضمار، وللكاوبوي أن يعبث يمنة ويسرة بها ويستمتع بأن يلاحق مشروعا يمشي حسب الخطة الزمنية ونطاق محدد وسينتهي بشكل تام بعد عام فيرسل حباله عليه فيبغته ويوقفه ويطرحه أرضا والشواهد على ذلك كثيرة.
وإذا كان الكاوبوي يريد أن يفرض رأيه على المهندسين والمتخصصين بحكم مسؤوليته وسلطته فإني أقترح ما يلي:
1 ـــ إنشاء كلية للكاوبوي في كل جامعة ويمكن أن تكون باسم (كلية الكاوبوي لعلوم الهندسة والعمارة وطب الأسنان وطب الباطنة وعلاج أمراض السرطان والزراعة وتنسيق المواقع والتصميم الداخلي والجغرافيا والتاريخ وعلوم الفلك والمساحة والتربية والكيمياء والفيزيا … إلخ) وتكون الكلية عبارة عن إسطبل كبير يعرض فيه بعض المشروعات الصغيرة والخفيفة التي يتعلم منها الطالب, ويكون التخرج بأن ينجح في تأخير مشروع أو تحطيم جمال واجهاته تماما كما يفعل الكاوبوي حين يمسك بفرس أو فريسة، فيتخرج بدرجة بكالوريوس كاوبوي ويعلق شارة على صدرة كي يعرف بها، ويستفيد المجتمع من خبراتهم.
2 ـــ إلغاء كليات الهندسة والعمارة والتخطيط في كل جامعات المملكة, إذ ما الفائدة من هذه التخصصات ونحن لدينا الآن (كاوبوي) يقفز على كل تخصص هندسي ويفتي في كل مجال ويهرف بما لا يعرف, ويحاول بسلطته أن يفرض آراءه الكاوبوية على المنطق والحس المعماري والجمال وأن يكون رأيه هو المنفذ دون أن ينظر إلى التكاليف التي تصعد إلى أعلى كلما صعد الكاوبوي على ظهر مشروع أو مخطط. والله الموفق.