احتكار الشعير
طالعتنا ''الاقتصادية'' في 27/1/1432هـ بخبر على صفحتها الأولى عنوانه ''الدولة تكسر احتكار الشعير بضخ كميات كبيرة بـ 40 ريالا''. وجاء في تفاصيل ذلك الخبر أن الدولة اشترت كميات كبيرة من الشعير بهدف توفيره في السوق بسعر مدعوم تنفيذا لقرار مجلس الوزراء الذي صدر أخيرا بأن تقوم الدولة باستيراد كميات من الشعير عند الحاجة لضمان إمداد السوق بكميات كافية للمحافظة على استقرار الأسعار. كما تضمن الخبر أن ذلك الإجراء جاء من منطلق حرص الدولة على المستهلك، وكسر الاحتكار في السوق للوصول إلى أسعار معتدلة تتوافق مع العرض والطلب على نحو يعكس الاحتياجات الحقيقية.
لقد رحب كثير من المراقبين بإقدام الحكومة على تلك الخطوة، إذ يُعد الشعير الغذاء الأساس للثروة الحيوانية في المملكة، ومن ثم فإن أي نقص في إمداداته أو ارتفاع في أسعاره مدعاة للقلق لما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية تلقي بظلالها على شرائح عريضة من المجتمع. وما يزيد في دواعي القلق أن الإمدادات والأسعار مرتبطة بسوق عالمية تكاد تشبه التجمع الاحتكاري ''الكارتيل'' في آلياتها تعمل بعيداً عن سيطرة الدول المستهلكة ومن بينها المملكة. ليس ذلك فحسب، بل إن حصة المملكة بمفردها من تلك السوق تبلغ نحو 45 في المائة تقريباً ما يضعها هدفاً سهلاً للاستغلال بأشكاله بالرغم من التباعد الجغرافي بين المصادر الرئيسة لإنتاج الشعير وهي أستراليا، أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية.
إن قضية الشعير ليست جديدة، إذ تمتد إلى نحو 35 عاماً مضت عندما باشرت الدولة تقديم إعانات مالية سخية لدعم أسعار سلة كبيرة من السلع الاستهلاكية المهمة كالأرز، السكر، الزيوت النباتية، حليب الأطفال، وغيرها، كما شملت تلك القائمة الأعلاف بأنواعها وعلى رأسها الشعير. وقد تم تقليص تلك الإعانات تدريجياً إلى أن ألغيت بشكل نهائي على جميع السلع المعانة عدا الشعير والذرة وفول الصويا وإن اختلف مقدار الإعانة المقدم لها من فترة إلى أخرى. لكن اللافت للنظر القفزات الكبيرة التي اتسمت بها واردات المملكة من الشعير خلال الفترة 1976 - 2010م إذ تضاعفت 20 مرة تقريباً لتبلغ في العام المنصرم 2010م وحده نحو ستة ملايين طن، وهي زيادة تفوق بمراحل عدة ما تحقق من زيادة في عدد السكان في الفترة ذاتها.
لم تكن المفارقة الوحيدة بين الأمس واليوم الزيادة الهائلة في حجم الاستيراد فحسب، بل شهدت تجارة الشعير في السوق المحلية تغييرات جذرية في هيكلتها إذ تقلص عدد المستوردين بشكل ملحوظ على عكس ما كان متوقعا. فعلى سبيل المثال لا يزيد عدد مستوردي الشعير اليوم في المملكة على عدد أصابع اليدين ينفرد واحد منهم فقط بالسيطرة على أكثر من 60 في المائة من السوق، ما يمنحه قدرة غير محدودة في توجيه السوق والاستئثار بحصة الأسد من كعكة الإعانة التي تقدمها الدولة والتي بلغت نحو (4) مليارات ريال في العام المنصرم. ذلك التركيز الجائر للاستيراد في أيدي عدد محدود من التجار يعطل آليات السوق التقليدية كالمنافسة والشفافية ما يبرر تدخل الحكومة كمستورد لحين إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، ولا سيما أن السلعة المعنية ذات بعد استراتيجي كالشعير.
بالطبع لا أعرف أحداً يجادل في أهمية دعم قطاع الثروة الحيوانية وبذل كل ما يمكن تقديمه للمحافظة على استقراره ونموه. لكن هناك من يرى أن استمرار اعتماد الثروة الحيوانية في المملكة على الشعير مصدراً وحيداً للتعليف أمر لا يدعو للاطمئنان على مستقبل تلك الثروة مهما قدمت الحكومة من إعانات مالية، أو مهما تدخلت بشكل مباشر كمستورد. وقد يكون من الحكمة المبادرة في تنويع الأعلاف المستخدمة بجانب الشعير وبشكل متوازن، إذ من المؤمل تحقيق وفر كبير في الكميات المستهلكة، وتوزيع المخاطر على مصادر متعددة لا تخضع للسيطرة ذاتها التي تحكم تجارة الشعير.
غير أن تلك المبادرة تعتمد على قدرة المصانع اللازمة لإنتاج الأعلاف البديلة، إذ إن الطاقات القائمة حالياً لن تفي باحتياجات السوق. وقد يتطلب ذلك المحور عملاً جماعياً من وزارة المالية، وزارة الزراعة، ووزارة التجارة والصناعة لتقديم ما قد تحتاج إليه السوق من حوافز لتوسعة المصانع القائمة وإنشاء مصانع جديدة تُراعى فيها جوانب المنافسة بإدخال وجوه جديدة للسوق. كما يُراعى فيها التوزيع الجغرافي لتوفير تكلفة النقل على المستهلكين. كما أن نجاح تلك المبادرة يتطلب تبني حملة توعية واسعة تدعمها حوافز مادية تُقدم كإعانات للمدخلات البديلة تجعلها أكثر جاذبية لمربى الماشية عما ألفوه.
هناك محور آخر قد يحسن النظر فيه عند تناول ملف الشعير ألا وهو تقليص الفجوة بين تكلفة الاستيراد وسعر البيع في السوق لترشيد الاستهلاك ولجم ''التصدير'' إلى الأسواق المجاورة، على أن يخصص مبلغ الإعانة أو جزء منها لمساعدة صغار مربي المواشي بشكل مباشر، وهي فئة يمكن تحديدها بدقة عبر الصور الجوية والبيانات المتاحة للدراسات الاقتصادية والاجتماعية.