الزيارات والتجارب الدولية ... دروس مستفادة أم زيارات ترفيهية؟ (2 من 2)

تحدثنا في الجزء الأول عن الزيارات الخارجية التي يقوم بها عدد من الجهات الحكومية وتكلف خزانة الدولة - المال العام - مبالغ كبيرة وبمئات الملايين على أقل التقديرات، بهدف (افتراضي) الاستفادة من تجارب الدول التي تتم زيارتها في العمل على بعض المشاريع الاستراتيجية، مثل تطوير التعليم والصحة والبنية التحتية والتقنية وغيرها، وتعلم دروس من هذه التجارب وعكسها على المشاريع المحلية المماثلة، إلا أنه وبالنظر إلى الواقع وما يحصل في المشاريع بشكل عام، فإننا لا نرى أي فائدة ملموسة من جراء هذه الزيارات على مستوى وجودة المشاريع، ويبدو أن الفائدة وبشكل حصري تتركز في فوائد ومصالح شخصية للوفود الزائرة، ليس إلا. ونجزم بأنه لو تم تطبيق الدروس المستفادة (الحقيقية) من هذه الزيارات الخارجية لأصبحنا الأفضل في التعليم، والأفضل في الخدمات الصحية، والأفضل في خدمات البنية التحتية من شبكات كهرباء واتصالات ومياه وصرف صحي وتصريف السيول، والأفضل في الصناعة، والأفضل في الإعلام، والأفضل في مستوى رفاهية الوطن والمواطن، فوطننا يملك مقومات النجاح والتطور والرفاهية، ولكن؟
في الجزء الأول من هذه المقالة، تحدثنا عن الزيارات الخارجية لقطاع التعليم العام وعلى مدى العقود السابقة، فماذا حصل؟ ما زال مستوى التعليم العام ليس فقط غير مقبول، ولكنه ينخفض من سنة لأخرى، واستشهدنا على ضعف مستوى التعليم العام وخطورة ذلك على مستقبل الوطن بالسنة التحضيرية في الجامعات السعودية، والتي تهدف إلى إعادة تأهيل مخرجات التعليم العام بسبب ضعفها وعدم امتلاكها المهارات الأساسية بالشكل المطلوب، كما استدللنا على ضعف التعليم العام بمشروع تطوير مناهج العلوم والرياضيات من خلال ترجمة مناهج شركة أمريكية في دولة عربية مجاورة وعلى أيدي متخصصين ومتخصصات في اللغة الإنجليزية، غير سعوديين، وكأن وزارة التربية والتعليم أو الجامعات السعودية لا تملك كفاءات محلية متخصصة في الترجمة، إضافة إلى (تجارب) مشاريع تطوير التعليم المتعددة والمتكررة وكأن بناتنا وأولادنا حقول تجارب. هذه فقط بعض الأمثلة في قطاع التعليم على عدم الاستفادة من الزيارات الخارجية، ومرة أخرى، فواقع التعليم العام ومخرجاته يثبت عدم جدوى الزيارات الخارجية، فمن المستفيد؟
أما في قطاع التخصيص، ورغم قرار مجلس الوزراء رقم (60) وتاريخ 1/4/1418هـ (قبل 14 سنة)، الذي تم تحديد ثمانية أهداف فيه للتخصيص في المملكة العربية السعودية مع توضيح الأسس التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار لتحقيق هذه الأهداف، من أهمها ترشيد الإنفاق العام والتخفيف عن كاهل ميزانية الدولة بإتاحة الفرصة للقطاع الخاص بتمويل وتشغيل وصيانة بعض الخدمات التي يمكنه القيام بها (الهدف رقم 7)، وزيادة فرص العمل والتشغيل الأمثل للقوى الوطنية العاملة ومواصلة تحقيق زيادة عادلة في دخل الفرد (الهدف رقم 5)، فماذا حصل؟ لا يمكن الحديث عن برنامج التخصيص في المملكة دون التعرض لتجربة تخصيص قطاع الاتصالات في التسعينيات الميلادية، حيث لم يتم تخصيص أكثر من (20 في المائة) من شركة الاتصالات المملوكة للدولة والتي تم نقل أصول وممتلكات وموظفي وعملاء (وهو الأهم) الهاتف السعودي للشركة في حينه، وبسبب عدم تطبيق المنهجية الصحيحة للتخصيص التي تتطلب اتخاذ قرارات صعبة وقاسية مثل تقليص النفقات وتقليص أعداد الموظفين لرفع الكفاءة في الأداء، وفتح باب المنافسة العادلة لعدد من شركات الاتصالات، كما حدث في برامج التخصيص في الدول التي نجحت في تنفيذها مثل بريطانيا في الثمانينيات الميلادية بقيادة رئيسة مجلس الوزراء مارجريت تاتشر، ولأن هذا لم يحدث، بل وحدث العكس تماماً مما أضعف وأبطأ برنامج التخصيص.
وقد يكون وجود عائد مالي (مؤقت) قد غطى، نوعاً ما، على مشاكل وخسائر تخصيص قطاع الاتصالات، وهي ميزة لا تتوافر في القطاعات الأخرى المستهدفة بالتخصيص مثل البريد والمياه والصرف الصحي والخدمات البلدية. وبالنظر لأهداف برنامج التخصيص حسب قرار مجلس الوزراء رقم (60)، فإن ما يحصل في هذه القطاعات من إنشاء شركات حكومية وبرأسمال حكومي خالص وبالمليارات، شركات ما زالت تعتمد في ميزانياتها السنوية على ميزانية الدولة وبشكل أكبر من السنوات السابقة، ولا ينتظر توقف أو انخفاض هذا الدعم المالي، يتعارض كلياً مع الأهداف الثمانية لقرار التخصيص، ومن أهمها الأهداف الخاصة بترشيد الإنفاق الحكومي. ما يحصل في هذه الشركات الحكومية هو تماماً عكس ما تتضمنه الدروس المستفادة من برامج التخصيص، فهذه الشركات ليست إلا مؤسسات حكومية مثلها مثل أي وزارة أو قطاع حكومي، ولكنها تحصلت على مرونة مالية في الصرف والإنفاق كما ترى إدارات هذه الشركات، دون تطبيق الأنظمة المالية الحكومية ونظام المشتريات الحكومي عليها ودون رقابة مالية مباشرة من وزارة المالية قبل الصرف، وخصوصاً في اعتماد وترسية المشاريع، كما تحصلت أيضاً هذه التنظيمات الجديدة (المسماة مجازاً شركات) على مزايا خاصة فيما يخص سلم رواتب ومنافع للموظفين أعلى بأضعاف مما يتوافر لموظفي القطاع العام، بل إنها أعلى من القطاع الخاص نفسه بشكل كبير، رواتب غير مبررة في ظل تحصل نفس الموظفين السابقين في نفس الجهة الحكومية عليها، بينما كانت رواتبهم لا تعادل عشر رواتبهم الجديدة، مبالغ تمثل عبئاً إضافياً على ميزانية الدولة دون أي عائد ملموس حالي أو مستقبلي لها، كما أن أسلوب التخصيص الحالي، إذا جازت التسمية، وخصوصاً في ظل التمتع بالمرونة المالية والرواتب الفلكية، لن يفشل برنامج التخصيص في المملكة فقط، ولكنه سوف يغري الجهات الحكومية الأخرى، بالسعي حثيثاً للحصول على مزايا مماثلة، ولم لا؟ طالما أننا نستطيع الحصول على مزايا وصلاحيات نخدم فيها أهدافا ومصالح مؤقتة خاصة، بينما لا توجد مطالبة وضغط لتطبيق منهجية التخصيص القاسية، أسلوب لا يخدم الدولة ولا يحقق أهداف التنمية.
وما ينطبق على قطاع التعليم العام وبرنامج التخصيص، ينطبق أيضاً على القطاعات الأخرى، فالخدمات الصحية ما زالت دون المستوى المطلوب، وليس من الواضح التوجه الاستراتيجي في هذا المجال في ظل عمل الجهات المختلفة في قطاع الصحة كجزر منعزلة وعدم وجود دور قيادي وموجه لمجلس الخدمات الصحية على الجهات ذات العلاقة بالخدمات الصحية، كما أنه من غير الواضح الهدف من وجود مجلس استشاري عالمي أعلى لوزارة الصحة يتكون كل أعضائه من أجانب - ما عدا وكلاء للوزارة - دون أي تمثيل من خبرات وقيادات صحية سعودية، وما علاقة ذلك بتطوير قطاع الصحة في المملكة؟ كما أننا لم نتعلم ونطبق الدروس والعبر من تجارب الدول الأخرى في عدة قطاعات وخدمات أخرى مثل مشروع الحكومة الإلكترونية، الذي لم نر له أي نتائج ملموسة منذ أكثر من (7) سنوات، ومشروع المدن الاقتصادية الذي كان من المفترض أن يتم فيه توظيف أكثر من مليون سعودي وسعودية غير الاستثمارات (الموعودة) القادمة من الخارج، إلا أن ذلك لم يتحقق بل إن حتى المدن الاقتصادية لم تر النور، وغيرها من التجارب المؤلمة والمكلفة في بعض القطاعات والخدمات الحكومية الأخرى.
ويمكن تلخيص الدروس المستفادة من تجارب الدول الأخرى، والتي ينبغي التركيز عليها، فيما يلي:
1. العمل بشكل مؤسساتي وليس بشكل شخصي، فالهدف من العمل على أي مشروع ينبغي أن يكون للوطن وليس لتحقيق رغبات مسؤول ما، لا يعدو كونه شخصا له أهدافه الخاصة، أهداف قد تتعارض مع أهداف الوطن، درس على جميع موظفي المشروع استيعابه فهم يخدمون أهداف المشروع وليس أهداف شخص.
2. التركيز على المدى الطويل في تخطيط وتنفيذ المشاريع، وهو تركيز قد يتعارض مع أهداف بعض المسؤولين الذين يركزون على دفع المشاريع وتنفيذها خلال فترات قصيرة الأجل، فترات تتزامن مع فترات بقائهم في مناصبهم، وذلك لتحقيق مصالح شخصية وليست مؤسساتية.
3. التركيز على التطوير والاستثمار في الموارد البشرية المحلية، وهو استثمار غائب في المشاريع المحلية، رغم أنه من أهم الدروس والعبر من تجارب الدول الأخرى مثل ما يحصل في سنغافورة وماليزيا وفنلندا وكرويا الجنوبية.
4. وجود رؤية وخطة استراتيجية شاملة تجمع جميع الجهات وتحكم عملها ومشاريعها بدلاً من عمل كل جهة حكومية بشكل منعزل دون تنسيق وتكامل حقيقي.
5. إدارة المشاريع بطريقة منهجية احترافية، مع المتابعة والرقابة والمحاسبة على المشاريع بشكل دقيق ومستمر من قبل جهة أو جهاز أعلى متخصص ومستقل، ومن خلال مؤشرات أداء ترتبط بأعلى سلطة في الدولة، مع وجود شفافية كاملة عن أداء وسير المشروع من جميع جوانبه، كما حصل في برنامج التخصيص في بريطانيا، بدلاً من غياب الرقابة والمتابعة والاكتفاء بتقارير ترفع من الجهاز نفسه، أسلوب يؤجل التعرف على وجود خلل في المشاريع إلى أوقات متأخرة وبعد تكبد خسائر مالية كبيرة.
هذه بعض الدروس والعبر التي ينبغي العمل بها، وما عداها قد لا يكون جاداً وتنقصه المهنية، فهل هناك خيار؟ قطعاً لا، فوطننا أحق بالتطوير والرقي والرفاهية، وبناتنا وأولادنا أحق بالتطوير والاستثمار في جميع المشاريع، ونملك - بفضل الله - جميع مقومات النجاح، من عقيدة الإسلام ومكة المكرمة والمدينة المنورة وحكومة راشدة وثروة بترولية استثنائية وموارد بشرية تنتظر الاستثمار الأمثل، خمسة عوامل تمثل الداعم والمحفز لتحقيق أهدافنا الاستراتيجية، أهداف كلنا يجب أن نعمل بصدق على تحقيقها، لترتقي المملكة للمكانة العالمية المستحقة لها.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي