في الخليج: ثروات الأغنياء.. كرة الثلج القادمة!

■ لا مانع أن تكون الأرقام مصدر (صدمة) كما هي مصدر للوصول إلى الحقائق..
وهنا أريد أن أقف عند مقارنة عدد الأثرياء في الخليج وعددهم في أمريكا، فكما جاء في العدد السنوي الخاص الذي صدر مع ''الاقتصادية'' أمس، يبلغ عدد الأثرياء الذين تتجاوز ثرواتهم مليار دولار (200) في الخليج، وفي أمريكا (270)، أما الذين تتراوح ثرواتهم بين 100 ــــ 1000 مليون دولار، فإن عددهم في الخليج هو (2800) شخص، وفي أمريكا (3000) شخص، ونلاحظ أن الأرقام متقاربة رغم فارق النمو السكاني وحجم الاقتصاد الكلي وتاريخ صناعة الثروة.
لا شك أن هذه تكشف عن خلل في إدارة الثروة الوطنية، ونخشى أن تجد الأجيال القادمة مشكلة رئيسة تهدد استقرار المجتمعات الخليجية إذا استمرت هذه الظاهرة، إذا أخذنا في الاعتبار حجم المداخيل النفطية الخليجية الكبيرة المتوقعة خلال السنوات العشر القادمة، التي تقدر بأكثر من (خمسة تريليونات) دولار، وهذه التقديرات بنيت على أساس استمرار معدلات إنتاج النفط الحالية وبسعر (60) دولارا للبرميل.
دول الخليج والتي تتشابه في ظروفها وفي طرق آلياتها لإدارة الثروة تحتاج إلى أن تتخذ خطوات عملية حاسمة وجريئة للتعامل مع هذه الثروة القادمة، بالذات كبح نمو الثروات بأيدي القلة، والقرآن العظيم في الأسس التي وضعها لمعاش الناس وحياتهم نبه إلى خطورة أن تكون (الأموال دُولة بين الأغنياء)، أي يتداولها الأغنياء بينهم دون أن يكون لها الأثر على الدولة وحياة الناس، فالدولة لها اعتباراتها لحفظ الأمن وتوفير الاحتياجات الأساسية للإنسان في الصحة والتعليم والإسكان ورعاية الفقراء.. وغيرها من الشؤون العامة الضرورية للاستقرار والسلم الاجتماعيين.
من الدروس التي كشفتها الأزمة المالية العالمية الأخيرة أن الدول التي لديها آليات وأدوات اقتصادية ومالية تطبق لتهذيب نمو الثروات لم تعانِ من انهيارات بنوك أو شركات أو إفلاس رجال أعمال، وهنا نشير إلى الدول الاسكندنافية، فهذه الدول التي تأتي في قائمة الدول التي تتمتع بمعدلات عالية في التنمية الإنسانية المستدامة وأصبحت نموذجا لدول الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وتشهد استقرارا سياسيا متميزا لديها ضرائب تصاعدية على الأثرياء قد تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الدخل.
طبعا هذه الدول كل ما تحصل عليه من ضرائب تعكسه في الإنفاق على مناحي الحياة العامة، وبالتالي يساهم الإنفاق المستدام في تعظيم تدوير الثروة وتوسيع نفعها في المجتمع.. وهذا له أثره المهم على توسيع قاعدة الطبقة الوسطى، ومن حقائق التاريخ المستقرة أن ثبات وازدهار الدول لفترة طويلة مرتبط بمدى استقرار الطبقة الوسطى وبمدى تماسكها وقدرتها على إنتاج الثروة والانتفاع بها، والدول الاسكندنافية يتعايش فيها البسطاء ومتوسطو الحال والأغنياء بسلام تام!
دول الخليج في العقود الماضية وجّهت برامج التنمية لبناء طبقة وسطى ويشكل العاملون في القطاع العام الشريحة الأساسية من هذه الطبقة، ولكن بقيت الإشكالية أن الاتجاه الحكومي القوي للقطاع الخاص في السنوات الماضية أدى إلى تقليص الإنفاق على القطاع العام، لذا تراجعت معدلات الأجور ولم تكن هناك مشاريع توسعية كبرى في مجالات الإسكان ولم يكثف الإنفاق على التعليم والصحة، وهذا رفع فاتورة الخدمات العامة على شريحة الوسط، يضاف إلى ذلك تراجع الاستفادة من معطيات تجارة التجزئة مع سيطرة العناصر الأجنبية عليها.. وهكذا تآكلت الطبقة الوسطى.
في السنوات الخمس الأخيرة تغيرت الصورة لصالح شرائح الوسط، فأغلب دول المجلس وسعت الإنفاق على المشاريع الحيوية وعدلت الأجور، ولكن هذا الإنفاق ربما لن يجد قيمته المضافة على الاقتصاد بسبب الخلل السكاني، وضيق مجالات الاستثمار والادخار للطبقات الوسطى واحتكار مجالات تجارية عديدة من قبل العمالة الأجنبية.
دول الخليج تحتاج إلى إدخال (سياسات ضريبية فعالة) هدفها تهذيب الثروات الكبرى وعدم السماح لها بالنمو إلى معدلات تكون خطيرة على الدولة والمجتمع، وأيضا سياسات ضريبية تدفع الناس جميعهم، الأغنياء والفقراء، إلى إنتاج الثروة وتعظيمها، ولا أرى أية حساسيات سياسية من إدخال الضرائب كآلية ضرورية لإدارة الاقتصاد، فدول الخليج عملت على تحديث مؤسساتها السياسية لتوسيع المشاركة الشعبية، فقد وجدت المؤسسات التي يشرف عليها مواطنون منتخبون بشكل نزيه وضمن الآليات المطبقة في الدول الديمقراطية.
وهذه المؤسسات موجودة في المناطق والولايات وفي المستويات الإدارية المحلية وتستطيع فرض الضرائب وتحصيلها وتوجيه إنفاقها، وهذه خطوة مهمة لتوسيع الإنفاق على المدن الصغيرة والمتوسطة وتنمية الأرياف، ففي الخليج تعاني المدن الكبرى من الزحف السكاني الذي أوجد مشاكل المدن الكبرى وأفرغ المدن الصغرى والأرياف للعمالة الأجنبية لتتولى شؤون الزراعة والصناعة وتقديم الخدمات والسيطرة على تجارة التجزئة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي