التعليم العالي والكليات التقنية
خلال السنوات الخمس الماضية، نلاحظ حراكا إيجابيا غير مسبوق في التعليم العالي تمثل في إنشاء عدد من الجامعات الحكومية الجديدة؛ لترفع إجمالي عدد الجامعات الحكومية إلى 25 جامعة قابلة للزيادة، إضافة إلى مشاريع استثمارية أخرى في العنصر البشري السعودي مثل برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، الذي وصل فيه العدد حتى تاريخه إلى أكثر من 100 ألف طالب وطالبة وفي مختلف التخصصات والدرجات العلمية. ومع التوسع في إنشاء الجامعات الحكومية والدعم اللامحدود من حكومة خادم الحرمين الشريفين والتسهيلات والمخصصات المالية السخية التي تقدمها وزارة المالية لوزارة التعليم العالي بشكل استثنائي؛ إيمانا من خادم الحرمين - حفظه الله - بأهمية وضرورة التركيز على تطوير العنصر البشري السعودي أولا وأخيرا، وتخصيص أكبر قدر ممكن من المخصصات المالية لمشاريع تطوير التعليم العالي لما نلمسه وتلمسه الدولة من نتائج وإنجازات، توسع اعتمد وبشكل استراتيجي على الاستفادة من عدد كبير من الكليات القائمة، سواء الخاصة بالبنات أو البنين، حيث إن هناك أكثر من 100 كلية للبنات متوزعة على أرجاء ومناطق ومحافظات المملكة تم ضمها إلى وزارة التعليم العالي؛ لتستخدم هي وكليات أخرى وفروع جامعات قائمة مثل فروع جامعة الملك سعود في القصيم وفروع جامعة الملك عبد العزيز في حائل وغيرها من الجامعات السبع الأولى، لتشكل معا نواة لعدد من الجامعات، نواة وفرت الجهد والمال والوقت لإنشاء الجامعات الجديدة. وحيث إن هناك توجها ومطلبا وطنيا واستراتيجيا للتركيز على التخصصات العلمية والتقنية والصحية في الجامعات الجديدة، ولتوفير الوقت والمال ولتحقيق التكامل بين الجهات الحكومية، وكما حصل مع كليات البنات عندما تم نقلها إلى وزارة التعليم العالي؛ ولأننا نغلّب مصلحة الوطن على أي مصالح فردية، فقد يكون من المناسب نقل الكليات التقنية التابعة للمؤسسة العامة للتعليم الفني والمهني إلى وزارة التعليم العالي؛ ليتم ضمها وتطويرها لتكون جزءا من الجامعات الجديدة.
هناك حاليا 34 كلية تقنية تابعة للمؤسسة العامة للتعليم الفني والمهني موزعة على جميع مناطق ومحافظات المملكة، وتاريخيا بذلت المؤسسة جهودا مشكورة في إنشاء هذه الكليات إلى جانب المعاهد الفنية للبنين والبنات (في وقت لاحق)، إلا أن النموذج الحالي لهذه الكليات يواجه عددا من الصعوبات، من أهمها عدم وجود فرص حقيقية لخريجي هذه الكليات في سوق العمل في القطاع الخاص؛ لأسباب عدة، من أهمها ضياع هوية الخريج فهو يحمل درجة دبلوم، فهي لا تصل إلى درجة بكالوريوس في تخصص معين وليست درجة دبلوم مهني أو ثانوي مهني. والسبب الثاني عدم قبول هؤلاء الخريجين في العمل كحرفيين في مهنة ما مثل النجارة والكهرباء والسباكة، فهم يرون أنهم أعلى مستوى من العمل كحرفيين، وهذا ما يعانيه القطاع الخاص عند تعامله مع هذه الفئة. ومن مناقشات وشهادات مباشرة من قطاع المقاولات في الغرف التجارية، تعاني شركات ومؤسسات المقاولات من خريجي الدبلوم بسبب ضياع هوية الخريجين من ناحية ومن رفضهم العمل كحرفيين، وكذلك من ضعف مستواهم العلمي في المهنة؛ مما يؤدي بحملة دبلوم الكليات التقنية إلى عدم الحصول على وظائف تناسب مؤهلاتهم (كما يرونها) لينضموا إلى مجموعة العاطلين عن العمل، نتائج تدعمها نسب وأعداد البطالة التي تصدرها وزارة العمل وتوضح أعداد العاطلين من حاملي الدبلوم. كما أن هذا المصير الذي يواجهه خريجو الكليات التقنية وتوسع التعليم الجامعي قلل من مستوى الطلب للالتحاق بهذه الكليات، خصوصا من الطلبة الذين يجدون فرصا جامعية؛ مما يؤدي إلى قبول طلبة بمستويات علمية متدنية. والسبب الثالث المرتبط بضعف نموذج التعليم الحالي للكليات التقنية هو تسرب وهجرة عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس من حاملي درجة الدكتوراه، خصوصا في السنوات القليلة الماضية؛ مما أدى إلى إيجاد ثغرة في هيئة تدريس الكليات التقنية، لتضطر هذه الكليات إلى الاستعانة بعناصر بشرية أقل كفاءة وتأهيلا، الأمر الذي انعكس سلبا على مستوى التعليم في الكليات التقنية.
التوسع الحالي في الجامعات السعودية والحاجة إلى التركيز على مجالات التقنية وتوافر 34 كلية تقنية، مع ما تعانيه من شح في أعضاء هيئة التدريس وضعف مستوى الطلبة كمدخلات ومخرجات، وصعوبة تحصلهم على وظائف وضياع هويتهم، كل هذه العوامل، مدعومة بضرورة الاستفادة واستثمار مجهودات وإنجازات كل جهة حكومية بدلا من البدء من الصفر وهدر أموال طائلة لتحقيق المنجزات الحالية نفسها، وهي 34 كلية تقنية جاهزة. ولدعم شرعية ووطنية هذا المطلب، لنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يحصل لو لم تضم الـ 34 كلية تقنية لوزارة التعليم العالي؟ الجامعات الجديدة في مناطق ومحافظات المملكة مثل القصيم والخرج وأبها والمجمعة وشقراء وجازان والأحساء ستستمر في تجهيز بنيتها التحتية وزيادة كلياتها وتخصصاتها لتشمل كليات تقنية، كما أن وزارة التعليم قد تعمل، وهو متوقع ومطلوب، على إنشاء جامعات جديدة، لكن هذه المرة جامعات تقنية متخصصة، توسعات ومشاريع ستكلف الدولة ميزانيات ضخمة، يمكن ترشيدها لو تم الاستفادة من الكليات التقنية الحالية. إضافة إلى ذلك، فإن عدم ضم الكليات التقنية لوزارة التعليم العالي سيبقي الوضع الراهن في هذه الكليات من ضعف وتسرب في هيئة التدريس وعدم إقبال الطلبة على الالتحاق بها وضعف مخرجاتها كما هو، بل قد يزداد سوءا، وضع يكلف الدولة أموالا طائلة، أموالا تمثل خسائر على ميزانية الدولة، يمكن لها أن تتحول إلى استثمار حقيقي إذا تعاملنا مع الكليات التقنية من خلال نقلها للتعليم العالي، عندها سيحدث الفرق.
وقد يكون من المناسب التعامل مع هذه الكليات الـ 34 بطرق مختلفة، بعد تقييم مستوى وجاهزية كل كلية، حيث يتم ضم بعضها لجامعات قائمة، ويتم دمج بعضها لإنشاء جامعات تقنية جديدة. ويمكن هنا التذكير بتجربة جامعة البترول عندما كانت كلية تابعة لـ ''أرامكو''، ليتم تطويرها وتحويلها إلى جامعة مرموقة، تجربة يمكن تطبيقها على كلية الجبيل الصناعية، مشروع يمكن لوزارة التعليم العالي والهيئة الملكية للجبيل وينبع العمل معا كشركاء استراتيجيين لتحقيقه، مشروع تتوافر فيه عوامل النجاح، من أهمها التوجه الاستراتيجي في تطوير وتوسيع التعليم العالي من قبل وزارة التعليم العالي والمزايا النسبية المتوافرة لدى الهيئة الملكية للجبيل وينبع، مشروع يدوَّن ضمن منجزات المملكة.
وللحديث بقية...