ماذا؟ النساءُ كالطعام؟!

.. يسألني أخي "مبارك الصهيب" وهو قارئٌ متابعٌ منذ زاوية "اسألوني": "هل دوما هناك قصة خفية عند كل كاتب؟ وهل تروي لنا شيئا عن ذلك في مقال؟.. "وفاجأني بالتفافٍ غير متوقع حين أرسل لي معروضاً موقعاً من مجموعة مِن مَنْ سمّاهم "من المهتمين". ولم يكن "مبارك" في حاجة إلى ذلك، فهو عزيزٌ عليّ جدا، وكانت رغبته أكثر من كافية.
نعم، الكتابُ والمفكرون مثل باقي الناس لهم مواقف مع أشخاصٍ أو أحداثٍ خفيّة، وشهرتهم هي التي جعلت تلك القصص والأشخاص والمواقف تُروى كالطـُرَف، أو كالثمين من المعلومات. ورغبةٌ عامة عند الناس أن يفتشوا وراء المشاهير، حتى لو لم يقدم المشهورُ عملا مفيدا للإنسانية، ولكن شَهَرتَه أعمالٌ دفعها فضول الناس لا إعجابهم، وتبقى الرغبة ذاتها كاملة التأجج لإزالة الحجاب عن أشياء أو أخبار أو أشخاص في حياة المشهورين لم تُعرف من قبل.. بل إن هذه صناعة درّت الملايين.
مثلا من المواقف التي قد لا نعرفها عن أديب العربية الكبير "ابن المقفع" كُرْهه الغريبُ للنساء، وكان يتعوّذ كل مرة يرى فيها امرأةً عابرة من جانبه، بل إنه لا يكتب أو يقوم بعمل ذي بال إن تصبّح في يومه بامرأة.. هو من ذكرَ صفاتٍ عن النساء أعفّ عن ذكرها هنا، ومنها لما وصف النساء بأنهن مجرد طعام، لا يُقبل عليه المرءُ إلا عندما يجوع، ومهما تنوعت النساء فهن مجرد طعام، ومن صفات الطعام أنه سريع الفساد .. وأن لا طعام يؤثـَرُ على طعام وقت الجوع، وكلامٌ سخيفٌ فعلا تتعجب أن يكون هذا العقل المثقف الكبير يؤمن به بل يكتبه بإسهاب. على النقيض تماما. وأستغرب أن كثيرا من كتابنا المعاصرين، لم يولوا بحثاً في رأي أديب العربية الكبير الآخر الذي جاء بعد ابن المقفع "أبي عثمان الجاحظ" في النساء، وهو من أعظم من صنع النثر الجميل بالعربية، وموسوعة زمانه.. هل تعلمون أنه الجاحظ وضع مصنـَّفاً خاصا عن النساء؟ سمّاه "كتابُ النساء".. ومن المؤسف أنه لم تصلنا من هذا الكتاب إلا فصولٌ قصار، وأن الذي وجده هم البحاثة الأوروبيون، بعد أن فُقِدَ معظمُه.. وضع "الجاحظ" فيه المرأة في مقام رفيع، واليوم بالذات حين أكون متكلما في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، سأصر على نشر بعض ما جاء في هذا الكتاب الخطير، الذي صنع للجاحظ في باريس ولندن وفيينا في القرن الثامن عشر شعبية بين النساء، قبل أن يصلنا نحن حتى "البيان والتبيين" و"الحيوان" لهذا العقل الفذ.. وهو يقول بعد أنهى الكتاب: "أنا لا أقول إن المرأة أفضل من الرجل.. وإن كنت لا أملك دليلا على ذلك!" قولوا لي هل هناك امرأة في العالم لا يلفّ برأسِها الإعجابُ أمام هذه العبارة؟ يعني "الجاحظ" يضحك علينا معشر الرجال ويقول إن المرأة لا تتفوق على الرجل، ولكن كل ما لديه يثبت هذا التفوق.. يا شيخ؟! ويقول الجاحظ إني وضعت الكتابَ لما رأيت ناساً يعتقدون أن حبَّ المرأة أختا وابنة وزوجة نوع من الضعف وقلة البأس وعيب في الرجولة، بينما المرأة أرفع خصالا، وأدق رؤية، وألطف ملاحظة، وأنبه إدراكا، وأكثر إخلاصا.. لذا وضعتُ هذا الكتاب".
وحين كان ابن المقفع مليحُ القسمات وسيم التقاطيع، كان الجاحظ عظيم الأنف غائر العينين متقدم الجبين فوق الحاجب الكث، يعني ليس جذابا بأي حال.. ولكن الآن اسأل النساءَ بعد أن عرفن الحقيقة، أي الرجلين أجمل؟
ومن أطرف الأحداث أن عظيم الأدب الفرنسي "فكتور هوجو"، بات على الطوى أياما، والتصق الجلدُ بالعظم، وكان وقتها ينتظر من ناشر رواية وضعها بعنوان "البؤساء" ردّا بعد أن قام الناشرُ بطبعها وتوزيعها، ولكن لم يأتِ خبرٌ والجوعُ والفقرُ عصراه حتى كاد يموت، فما كان منه إلا أنه اتجه لمكتب الناشر متهالِكا يطلب قرضا مؤجلا بفرنكين حتى يشتري خبزة وشرابا، فقال اله الناشرُ: "فرنكان؟ ألا تعلم أن روايتك طبعت حتى الآن أربع مرات، وكلها نفدت من الأسواق؟! خُذْ شيكاً." ولمّـا رأى "هوجو" الرقمَ الذي في الشيك وقع من الهول أرضا مُغمى عليه.. كان الرقمُ: مائة مليون فرنك!
"لي هنت Leigh Hunt"، شاعرُ بريطانيا ومؤلفها السياسي الشهير، يروي أنه لما سُجن تعرف على سجّانٍ أمّي، وأصر ألسجانُ أن يحضر له كل يوم ورقة وقلما ويكتب له أشعارا، والسجانُ لا يعرف أن يقرأها، فيقرأها هو عليه.. واستمر ذلك كل ليلة لمدة عامين لم يتخلف السجّانُ الأمي عن سماع كل قصيدةٍ مرة واحدة.. لما خرج "هنـْت" نشر قصائدَ السجن وكانت سبب شهرته ومن أهم مؤلفاته، ثم جاءه السجان يزوره، وأخذه العَجبُ لما تلا السجّانُ عن ظهر قلب كلّ القصائد.. أكثر من خمسمائة قصيدة طويلة! ثم.. غاب السجّانُ ولم يُعْثـَر عليه.
انتهت المساحة.. ونحن بالكاد بدأنا يا مبارك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي