تركيا وإسرائيل.. دبلوماسية الاستعراض السياسي والعلاقات الاستراتيجية الدائمة

في عالم اليوم بات الفضاء الإعلامي بديلا عن الحقيقة، وبديلا عن السيادة، وملاذا للحرب، وملاذا للمقاومة الصاخبة، لكن على أرض الواقع الأمور تبدو مختلفة ومغايرة جدا لهذا الخطاب، صراعات وخلافات عبر الفضائيات تظن أن الحرب ستقع غدا، تركيا ستقطع علاقاتها مع تل أبيب، وأن عودة العلاقات باتت من سابع المستحيلات، وكذلك إيران ترمي واشنطن منذ بدء الثورة بصواريخ كلامية، وحزب الله يلتقي المخابرات الألمانية للتفاهم مع إسرائيل بخصوص الأسرى، وحماس تلتقي المخابرات الألمانية لإطلاق شاليط، والعجيب أن الكل يلتقي سرا في جنيف للتفاهم على المصالح، وعلى الدور الجديد، رغم بعض الاختلاف في السياسة الأردوغانية عن النجادية السياسية، وبين حماس وحزب الله.
تسعى أنقرة لدور عالمي وإقليمي وتضع كل إمكاناتها لخدمة هذا الهدف، وهذا الدور يتطلب مزيدا من القوة ومزيدا من الأخلاقيات الدولية، ومزيدا من الحضور، ولهذا كانت وسيطا بين تل أبيب، ودمشق، وبغداد، وطهران، والناتو، وحماس والسلطة الفلسطينية، وأسهمت في الإغاثة الإنسانية والأمن الإنساني العالمي، وهي تمتلك أسطولا من القوة المدنية للإغاثة العالمية، وقد كانت حاضرة في كارثة باكستان وغيرها، وأخيرا في حريق الكرمل في فلسطين المحتلة.
هذا الدور الإنساني، وهذا الحضور لا غبار عليه، ولا اعتراض سوى اعتراضات إعلامية أمريكية تتحدث عن معضلة الدور التركي، وانكشاف حقيقته، كما أكد ذلك فيليب جوردون مساعد هيلاري كلينتون، لكن الأتراك ومنذ السنوات الخمس الأخيرة بدت عليهم صحوة سياسية واستراتيجية متأخرة، فبعد أن كانت تركيا جزءا من السياسة الأوروبية وملحقاتها وتفاعلاتها، بدأت في عهد أحمد داود أوغلو دولة لها مكانتها الاستراتيجية، ولها دورها العالمي، وطبعا هذه المكانة لا تتحقق دون تكامل استراتيجي داخلي وخارجي دون فهم دقيق لأعماقها الاستراتيجية، ولا تتحقق أيضا دون ترتيب البيت الداخلي، وحسم كثير من القضايا، وترتيب العلاقات الخارجية بالتفاهم مع واشنطن، وفعلا استطاعت أنقرة أن يكون لها اسمها، وطابعها الخاص على المستوى العالمي وحاضرة في أهم المؤتمرات العالمية، ولها كلمتها، ولعل ما دار بين الرئيس التركي عبد الله جول، والرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي في مدريد حول الدرع الصاروخية، وحول إيران يعكس جانبا من الوضوح التركي، وجانبا من الحضور أيضا، وهو حضور فاعل، وله إمكاناته التأثيرية، وليس حضورا إعلاميا فقط أو بروباغندا لكنه أيضا حضور في إطار النيتو.
بالأمس القريب طالب رئيس الوزراء التركي بضرورة اعتذار إسرائيل لأنقرة، ودفع تعويضات لأسر الشهداء الذين قضوا في قافلة الحرية على يد الجيش الإسرائيلي، وكان إعلان أردوغان حينها واضحا لا لبس فيه، ولا رجعة عنه، وهي شروط لم تعد ملزمة لإسرائيل فقط، بل ملزمة لحكومة أردوغان أيضا، والخارجية التركية أكدت أن القرار التركي غير قابل للتفاوض وغير قابل للنقاش، ومارست تركيا حملة دولية للضغط على إسرائيل للرضوخ للقانون الدولي، وتل أبيب تعمل ما بوسعها بشرط ألا تخضع للقانون الدولي، لأن هذا الخضوع مكلف من ناحية استراتيجية وأمنية بالنسبة لها، وأيضا ألا تظهر إسرائيل بمظهر الكيان الضعيف أمام تركيا، والسؤال كيف ستبلع تركيا شروطها، وكيف ستطبع إسرائيل علاقاتها مع أنقرة؟ وكيف لنا أن نفهم أن ما جرى كان خلافا، وليس تبادل أدوار ضمن استراتيجية العلاقات المشتركة مع واشنطن؟
بالطبع إن الموقف الأخلاقي التركي والخلاف على أهميته لا يرقى إلى مرتبة قطع العلاقات، وإنهاء مرحلة كبيرة من التعاون الاستراتيجي، وبما يبعد أنقرة عن التفاعل السياسي وقضية إقليمية حيوية، وبما يخالف المنهج التركي في تصفير المشكلات، ولكن الكبرياء التركي الجديد لن يبلع اللطمة، والدرس الإسرائيلي بسهولة، وإن سياسة التحدي لن تجدي نفعا، خصوصا أن إسرائيل لن تتوانى عن تلقين أنقرة دروسا مختلفة في السياسة الدولية، وفي الأمن الداخلي والتوازنات الداخلية، والاتصال بالمؤسسة الأمنية والعسكرية التركية، وأيضا مع حزب العمال الكردستاني الذي يتضح وجود خشية تركية من عودة المساعدات السابقة له من قبل تل أبيب وطهران، وهذا من أسباب النشاط التركي الفاعل والحذر حيال إسرائيل وإيران.
ومع ذلك، فإن علاقات التعاون العسكري والأمني الاستراتيجي لم تنقطع بتاتا، بل ظلت قائمة ولم تتغير أجندتها تماما، وأن الطيران الإسرائيلي كان يستخدم الأجواء التركية للتدريب، وأن التجارة العسكرية تجاوزت الملياري دولار حتى نهاية 2007، وأن عددا من العسكريين الأتراك يتدرب في جنوب فلسطين على استخدام الطائرات دون طيار، وأن أنقرة اشترت عشرا منها من تل أبيب بقيمة 190 مليون دولار.
ولعل الدراسة التي صدرت عن مركز بيجن السادات للدراسات الاستراتيجية في تموز الماضي تكشف حجم العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين، التي كان عنوانها (الحلفاء الاستراتيجيون لإسرائيل: تركيا والهند)، وهي دراسة تصف الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية لهذه العلاقات وتطوراتها ضمن ما تسميه إسرائيل "نظرية الأطراف الاستراتيجية الفاعلة" عوضا عن علاقات مرتبكة وهشة عربيا، كما ترى تل أبيب.
بعيدا عن تفصيلات العلاقة الاستراتيجية وقريبا من الحدث نلاحظ أن الطرفين التركي والإسرائيلي راغبان جدا في تجاوز حالة التوتر في العلاقات الثنائية، ولكن كيف يمكن تجاوزها دون أن تخدش المكانة التركية، أو تؤثر على الوضع التركي الداخلي، وبما لا يسيىء لشعبية الرئيس التركي أردوغان ولحكومة العدالة والتنمية في وقت بات فيه الزعيم الروحي للإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان بعد إقالته لرئيس حزب السعادة وتعيينه ابنه أمينا عاما له، وبعد اتهامه لحكومة أردوغان أنها وراء حالة الانقسام التي يعيشها السعادة، خرج أربكان ليقول إن حزبه الأصل والعدالة تقليد، وإن أردوغان مجرد دمية بيد أمريكا وإسرائيل.
هنا في هذه الزاوية تحديدا لن تقبل أنقرة تطبيعا لعلاقات لا يحفظ لها كرامتها، وألا يصبح تنازلها عن شروطها سببا في تراجع شعبيتها، وهي على أبواب انتخابات في عام 2011، ويمنح معارضوها خطابا معارضا لها مسنودا بحقائق، ولهذا لم تمانع أنقرة من الاتصال الدبلوماسي مع إسرائيل إدراكا منها بأن إسرائيل لن تستجب لمطالبها بسهولة، وكلما تقدم الوقت اعترت القوة التركية ملامح الضعف أمام إسرائيل، هذا رغم أن الاتصالات ظلت مفتوحة، وإن كانت على مستوى وزارة الخارجية، وكان اللقاء السري الذي تم بين وزير الخارجية التركي أحمد داود وغلو، ووزير الصناعة الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر في أمستردام بتاريخ 30 حزيران (يونيو) 2010 وحده يلخص حقيقة السياسة الخارجية لكل من إسرائيل وتركيا، فالطرفان ساعيان نحو الآخر بقوة لكن المطلوب إيجاد مخارج مقنعة للرأي العام لعودة العلاقات إلى طبيعتها، وهذا يدلل على أن العلاقات الاستراتيجية والتحالفات الإقليمية لا تلغيها حادثة، ولا يمكن أن تؤسس حوداث من هذا النوع إلى قطيعة استراتيجية، لكن ما حدث هو حدة الخطاب السياسي التركي وعلانيته وشروطه التي لا يمكن التراجع عنها من ناحية إعلامية، والسؤال كيف سيعمل الطرفان على ترميم هذه العلاقة؟
بالطبع أيضا ستتم اللقاءات وسيتكاشف الطرفان، وربما يتفق كل منهما على آلية ومخرج للآخر مخرج يؤمن لكليهما الحد الأدنى من شروط الخطاب السياسي المعلن، ولهذا سيكون المدخل هو اللقاءات والاتصالات السرية أولا، وأيضا عبر الأصدقاء، وبخاصة واشنطن، وأيضا عبر استغلال القنوات الدبلوماسية العامة والإنسانية، فقد لاحظنا التالي على السلوك التركي حيال إسرائيل، إذ كانت أنقرة تستجيب لحالة داخلية عندما صعدت من خطابها السياسي مع إسرائيل، وهو تصعيد حققت بعض مكاسبه الداخلية، وهي تستجيب لمطالب خارجية بمنافسة إيران في المنطقة تنافسا عقلانيا منضبط المسارات، وهذا التنافس نلاحظه في أحاديث السياسة التركية من أن الدور التركي سيهمش الدور الإيراني النابع من فراغ القوة في المنطقة، وأيضا نلاحظه في زيارة أردوغان الإعلامية إلى لبنان والاحتفال المهيب الذي حظي به في بيروت، وهي زيارة جاءت بعد زيارة مماثلة قام بها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لبيروت ولجنوب لبنان. لكن أنقرة أيضا ليست راغبة في استمرار هذا التصعيد إلى مرحلة اللاعودة، ولذلك حدثت استجابات وإشارات بعدم الممانعة، وفهمت تل أبيب الرسائل، لكن الحكومة الإسرائيلية، وتحديدا وزير الخارجية افيغادور ليبرمان له رؤية سياسية مقاربة للرؤية العسكرية الإسرائيلية، وهي أن تقديم إسرائيل تنازلات سياسية يضعف من هيبتها العسكرية والأمنية، وأن انتصارها أو على الأقل عدم استجابتها العاجلة للشروط التركية يعني بالتحليل السياسي أن تل أبيب تحدد متى تتنازل، ومتى تستجيب بإرادتها، وأنها لا تقبل الضغط ولا تعترف به، كما أنها تدرك أن حفظ ماء الوجه التركي بعد هذا الوقت هو تلطف إسرائيلي، واستجابة لربما لرغبة تركية باعتذار، ولو اعتذارا دبلوماسيا باهتا.
ولتشجيع إسرائيل على الاعتذار، ولوضع لازمة أخلاقية تدعوها لتقبل ذلك وعقب حريق الكرمل اتصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عارضا على تل أبيب المساعدة التركية، واستجابة لهذا الاتصال طلبت إسرائيل مساعدة الدول الإقليمية كي تظهر الاستجابة التركية بأنها جاءت بطلب إسرائيلي، وقد تعمد رئيس الوزراء الإسرائيلي شخصيا استقبال وفد وحدة الإطفاء التركية في المطار، وكانت هذه رسالة دبلوماسية تقديرية إسرائيلية لتركيا، وعقب هذه المشاركة أوضح رئيس الوزراء التركي أردوغان أن المساعدات الإنسانية هي ممارسة لأخلاقيات السياسة التركية، وأنها لا تعني التنازل عن حق تركيا في الاعتذار والتعويض، وعلى الجانب الآخر بدأت المفاوضات السرية التركية الإسرائيلية في العاصمة السويسرية جنيف، التي جمعت بين مساعد وزير الخارجية التركي فيريدون سينير ليوغلو، ورئيس البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في الأمم المتحدة، وهنا نرى اختلال المعادلة في هذا اللقاء من ناحية بروتوكولية، إذ إنه كان من الممكن أن يتم اللقاء بين رئيسي البعثات التركية والإسرائيلية، أو سفيري البلدين في أمستردام لكن أن يقابل مساعد وزير الخارجية التركي سفيرا لإسرائيل فهذا يحتاج إلى تفسيرات.
هذه اللقاءات لم تأت نتاجا لدبلوماسية الإطفاء، وإنما كانت تجري بسرية كونها تحتاج إلى إعداد مسبق، وتفاهم مسبق أيضا على التفصيلات العامة، وعلى المحاور، وعلى مطالب كل طرف، وحديث إسرائيلي بأن اللقاء سيمهد لصياغة مسودة اتفاق (مخرج)، ورفعه لتل أبيب وأنقرة للموافقة عليه.
بعض التسريبات الإعلامية الإسرائيلية تشير إلى أن اللقاء التركي- الإسرائيلي الذي تم في سويسرا، وفي أمستردام حدد أسسا لبداية انطلاق علاقات تركية- إسرائيلية جديدة، بحيث تتضمن الاتفاق على
- أن يستثمر الطرفان الدبلوماسية العامة (حرائق) الكرمل كطريق لحل مجمل الخلافات بين الطرفين.
- أن تتفاهم أنقرة وتل أبيب على أن يلبي الاتفاق الحاجة السياسية الداخلية والخارجية لكل منهما.
- أن تبدي تل أبيب احترامها وتقديرها للدور الإنساني التركي، باستجابتها العاجلة لإطفاء حريق الكرمل والإشادة باتصال الرئيس أردوغان، لتعلن أسفها عما حصل، وأدى إلى توتير العلاقات بين الطرفين واعتذارها عما حصل، وأنها ستنظر في آلية مشتركة لتعويض أسر الضحايا.
- الاتفاق على الترتيبات الدبلوماسية، خاصة مع انتهاء أعمال السفير الإسرائيلي في أنقرة غابي ليفي، حيث تعيد أنقرة سفيرها لتلك أبيب في الوقت الذي تقبل فيه اعتماد أوراق السفير الإسرائيلي الجديد.
على الرغم من هذا التقارب التركي- الإسرائيلي، واللقاءات السرية، والاتصالات بين رئيسي الوزراء، إلا أن هناك اعتراضات داخل إسرائيل يثيرها وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان لكن الصحافة الإسرائيلية أشارت إلى أن الصمت الذي يتحلى به ليبرمان غير معهود، ورجحت أسباب الاستعجال الإسرائيلي- التركي لبدء المفاوضات وانطلاقة العلاقات سببها.
- الدور الكبير الذي مارسته واشنطن في الفترة الأخيرة ورغبتها في انطلاقة العلاقات، والبدء في الوساطة التركية للسلام في المنطقة.
- الرغبة التركية في عدم دفع إسرائيل لبناء علاقات وثيقة واستراتيجية مع اليونان، ولما لذلك من تأثيرات في الملف القبرصي والجزر المتنازع عليها.
- رغبة إسرائيل في تجميد المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والاستعاضة عنها بالمفاوضات مع سوريا.
- مخاوف تركية من نجاح مبادرة الشراكة الشرقية في استقطاب أذربيجان وأرمينيا وحل النزاع حول إقليم ناكورنو كرباخ.
- تراجع النشاط السياحي في تركيا، خاصة أن غالبية السياح الغربيين مرتبطون ببرامج سياحية شرق أوسطية تبدأ من تل أبيب.
- رغبة الولايات المتحدة ممارسة تركيا لدور الضابط الاقليمي المساعد والمساند في وقت ترى واشنطن أنها مشدودة جدا لمراقبة تطورات الأوضاع في آسيا وإفريقيا.
انطلاقا مما تقدم فإن التحليل السلوكي السياسي لكل مع تركيا وإسرائيل يعطي اهتماما أكبر للرأي العام الداخلي وللمشاركين في الحكم، ولحركة المتغيرات التي ستقع في حال أصر أحد الطرفين على موقفه، وعندها لن يكون بمقدور حزب العدالة والتنمية خسارة الشارع التركي، وقبول الصفعة الإسرائيلية، أو العكس التضحية بالشارع التركي لمصلحة العلاقة مع إسرائيل، كما أن إسرائيل ليس بمقدورها تقديم الاعتذار لتركيا وخسارة الشارع الإسرائيلي والمشاركين في الحكومة، ومنها فإن التوافق على بيان أو مسودة اتفاق تلبي حاجة الطرفين هي الأكثر تعبيرا عن حقيقة العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل، وأية تحليلات تتبضع في سوق الأيديولوجيا لن تجدي نفعا، ولن توصلنا إلى حقائق، لأن الأيديولوجيا محاصرة للعقل السياسي، وهي انقطاع عن العالم، وتعريض المصالح للخطر، لكن هذا لا يمنع من ادماج واستثمار وتوظيف الملاءة الأيديولوجية لصالح السياسي شريطة ألا تتحكم به أو تحدد أجندته السياسية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي