هل يمكن أن نجد هوية عمراننا الضائعة؟
تخيل أنك دخلت غرفة من غرف المنزل ليلا وكانت هذه الغرفة مكتبا لك في بيتك الواسع، وحين دخلت سقط مفتاح سيارتك وفي تلك اللحظة انطفأت الكهرباء عن الغرفة، وجلست تبحث عن المفتاح ولم تجده، ثم لمحت نورا من نافذة المكتب، فذهبت إلى مصدر ذلك النور لتنظر ماهيته، فوجدت أن أنوار الشارع مضاءة فقررت أن تذهب إلى ذلك النور، وبعد أن وصلت إلى الشارع بدأت تبحث عن المفتاح هناك، وفي هذه الأثناء مر عليك أحد الجيران فسألك عن ماذا تبحث، فقلت له أبحث عن مفتاح السيارة فبدأ يبحث معك عن المفتاح، وبعد قليل مر جارك الآخر فوجدكم تبحثون فجلس يبحث معكم عن المفتاح، وفي لحظة سأل أحدهم أين أضعت المفتاح؟. فقلت له في غرفة المكتب فتعجب الجميع كيف تبحث عن المفتاح هنا؟! فقلت لهم إن هذا المكان مضاء!!
تلك هي هويتا العمرانية الضائعة التي نبحث عنها منذ عقود بعد أن دخلنا غرف الخرسانة المظلمة ثم خرجنا إلى الطريق وجلسنا نبحث بشكل جدي عن المفتاح لهويتنا، غير إننا لم ندرك بعد أننا في مكان غير المكان الذي ضاعت فيه والذي تسبب في توهاننا عنه حتى اللحظة لندرك هويتنا المعمارية. ولم نعرف أين المفتاح للهوية التي أضعناها، فلقد كانت هوية عمراننا قبل مجيء الخرسانة واضحة المعالم سهلة البناء في كل منطقة ومدينة، ثم ما لبثنا أن دخلنا مع هذه الخرسانة وجلسنا في غرفها التي بنيت منها وعمرانها الذي غطى الأحياء والأرجاء، فبدا واضحا التخبط في الهوية الذي يحدث في أرجاء المدن، ولك أن تمر في أحد الأحياء في أي مدينة لتنظر كم هو مقدار البعد الذي نعيشه عن هويتنا، وربما أننا نبحث ليس في الشارع المقابل لنبحث عن المفتاح. بل ربما أننا نبحث في صحراء مقفرة عن الهوية العمرانية الضائعة، حيث تعيش أحياؤنا مسخا لم تعرف له هوية فلا تعرف أي مدينة أنت فيها، ولا تعرف أي طابع اتبع من ذلك التنافر الذي يحدث في المدن والقرى هذه اللحظة.
لكن في اعتقادي أن المفتاح الذي نبحث عنه هو موجود وواضح، ويمكن لنا أن نتعرف عليه وندرك كنهه ونتلمس مفرداته وننشد ألحانه لكن أين؟
إن العمارة وهي الفن والوظيفي هي أشبه باللغة التي لها مفردات وأحرف، ومن ثم يأتي الشاعر ليستوعب تلك المفردات، ومن ثم يبدأ في نظم القصائد وفق نسق صنعه الخليل بن أحمد للغة العربية، حيث وضع أوزان الشعر وعروضه، وتلك العروض هي علم لابد للشاعر أن يتبع خطاه وينحى على منواله، وهي عروض وأوزان معروفة أنشد الشعراء على أوزانها قصائد تطرب السامع في قوة معانيها وجودة مبانيها. والشرط الذي لابد أن يكون هو أن يتقن الشاعر تلك اللغة وأن يستوعب تلك المفردات في شعره ويعمل على توليدها، وليس مطلوبا بالطبع أن يكون الناس كلهم شعراء لكي يصنعوا بيتا شعريا، كما أنه ليس مطلوبا أن يكون الناس كلهم معماريين لكي يصمموا بيتا عمرانيا، لكن المطلوب هو الذائقة الشعرية والذائقة المعمارية لدى الأفراد، وكيف السبيل إلى الوصول إليها ومعرفة أننا حصلنا عليها وليس كمثل هذا البيت الذي صنعه أحدهم:
قدمورننق مرسي بنجــور
ياليتني أقدر أقطع هالبحـور
فهو مزيج من ثلاث لغات يمكن أن يكون كل شيء إلا أن يكون بيتا شعريا يحترم قواعد الشعر ونظمه، فهو كمن يلبس ثوبا ثم يلبس معه ''ربطة عنق غربية''. والذي يعرف مفردات العمارة وأوزانها حينما ينظر إلى عمارتنا المحلية اليوم، فهي كمن يصنع ذلك الزي تماما، وبالطبع فإن هذا قبل أن تدخل لغة النت إذا الآن: ''( :) ^-^ '' هي لغة الجيل الجديد الذي ربما يصنع عمارة أخرى في العالم الافتراضي الجديد! غير أننا لا بد أن نعترف أن ما يحدث اليوم في عمراننا هو مزيج متنافر في أوزان ركبت بطريقة خرسانية مزعجة وأصبح الحديث من الأفراد هو الكم الخرساني والذي يوضع في المنزل وعدد الأعمدة وأسياخ الحديد، وأخيرا الرخام والروزا وغيرها من مواد ومفردات لا تلتقي أبدا في بيت واحد!
وحين ننظر إلى الهوية العمرانية التي صنعت لمدينة عمان في الأردن، حيث كانت هناك رغبة في أن تتوحد الهوية العمرانية للمباني السكنية وحتى المكتبية في نمط واحد بديع فكانت هوية عمرانية واحدة للمدينة وجعلت من حجر عمان أسلوب بناء ومفردة يشدو بها كل منزل، فلذا تجد مساكن عمان نمطا عمرانيا موحدا ونسقا رائعا لتلك المدينة الجميلة.
وفي الرياض نجد أن ما صنعته الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض في وسط الرياض، يمكن أن يكون هو المفتاح الذي نبحث عنه، وهو الهوية العمرانية التي يمكن لها أن تمنحك شعورا بالانتماء المكاني والنفسي الذي ترتاح له، إنها عمارة المكان بمواد حديثة، وهوية عمرانية محدثة تحترم المكان والزمان والبيئة والتاريخ، ولذا جعلت الهيئة من وسط الرياض ومن مركز الملك عبد العزيز التاريخي، أنموذجين رائعين لعمارة الرياض القديمة بمواد حديثة.
ولذا يمكن لنا أن نستفيد من هذين النموذجين الرائعين والعمارة التي تحويها في ذلك المكان والأمل في أن يجعل ذلك النمط هو هوية العمارة في الرياض، وأن نعمل على تطوير المفردات التي صنعتها تلك العمارة، وأن تعطى المكاتب الهندسية تلك الأنماط لتحتذي بها حتى لو أمكن تشجيع صناعة المفردات لهذه العمارة والمواد التي تتكون منها، ليؤتي هذا الإرث العمراني ثماره في عمارة تحترم المكان وتشم من عبقها رائحة الخزامى والرياض.