الهند .. العملاق الناشئ

حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كان العالم ينظر إلى الهند كبلد التناقضات بين المهراجات الأغنياء وملايين الفقراء إلى جانب تاريخه الشرقي الساحر، لكن خلال عقد من الزمن، تغيرت هذه النظرة وبات النمو الاقتصادي المتسارع الذي تشهده الهند محط اهتمام العالم، وفي معرض هذا المقال، سأحاول تحليل العوامل التي تقف وراء عملية التحول الاقتصادي والاجتماعي في الهند مع محاولة لاستشراف آفاقها المستقبلية خلال العشرة أعوام المقبلة، مع استعراض أبرز التحديات التي تعترض أهدافها وتطلعاتها.
تحتل الهند اليوم المرتبة الثانية عشرة بين أكبر الاقتصادات في العالم، في ظل نمو ناتجها المحلي الإجمالي بمعدل 7.9 في المائة من عام 2000 لغاية 2008، كما أنها تأتي في المرتبة الثانية كأسرع الاقتصادات الكبيرة نمواً بعد الصين، وتشير توقعات كبار المحللين لدى المؤسسات المالية العالمية على غرار غولدمان ساكس ومورجان ستانلي وستاندرد تشارترد إلى احتمال تحقيق الهند معدل نمو أسرع من الصين خلال العشرين عاماً المقبلة، وتبين هذه المعطيات أن الهند وبحلول عام 2030 ستتقدم حتى على اليابان لتحتل المرتبة الثالثة بين أكبر اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
بدأت مرحلة التحول في الاقتصاد الهندي منذ عام 1991، عندما كانت البلاد على حافة الإفلاس، الأمر الذي اضطر الحكومة آنذاك إلى التخلي عن تدخلها الشمولي في الاقتصاد الذي تسبب في تقييد حرية القطاع الخاص في ظل التحكم الحكومي حتى في التفاصيل الصغيرة كتحديد أسعار الصابون، وقد أطلق هذا التغيير في السياسات العنان أمام ريادة الأعمال لتنتشر على نطاق واسع، وهو ما لم يحدث حتى في الصين التي لا يزال اقتصادها تحت سيطرة الحكومة إلى حد كبير، ومن جانب آخر، شكلت الميزات التنافسية لقطاع تقنية المعلومات والخدمات المرتبطة به في الهند عاملاً إضافياً لدفع عجلة نموها الاقتصادي، حيث برزت الهند خلال العشر سنوات الماضية كوجهة أولى عالمياً في مجال التعهيد، ولم يقتصر ذلك على الخدمات العادية كمراكز الاتصال فحسب، بل امتد إلى قطاعات أخرى أكثر تطلباً للمهارات البشرية والتقنية على غرار تحليل المعلومات وأبحاث الأسواق المالية والخدمات القانونية والأبحاث الدوائية، أما العامل الثالث في تطور الاقتصاد الهندي فقد تجسد في الزيادة الكبيرة في حجم الادخار المحلي والاستثمار، ففي مطلع التسعينيات، بلغ ﺗﻜﻮﻳﻦ رأس اﻟﻤﺎل اﻻﺟﻤﺎﻟﻲ ما نسبته 24 في المائة من اﻟﻨﺎﺗﺞ اﻟﻤﺤﻠﻲ للبلاد، وما لبث أن شهد زيادة ثابتة وسريعة من ذلك الحين ليبلغ حالياً ما نسبته 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل قليلاً من الصين لكنه يشكل تقريباً ضعفي النسبة في كل الاقتصادات الكبيرة في العالم.
يتوقع المحللون أن ينمو حجم الناتج المحلي الإجمالي للهند بوتيرة أسرع مع الصين خلال العشر سنوات المقبلة، وتعتمد هذه التوقعات على ثلاثة عوامل رئيسية، أولها أن الهند تقوم حالياً بالاستثمار بشكل محموم في مشاريع البنى التحتية على غرار ما بدأته الصين في عام 1996، إذ قامت الصين بإنفاق ما نسبته 8.2 من ناتجها المحلي الإجمالي على البنى التحتية في الفترة بين 1996 -2005 فيما أنفقت الهند في الفترة نفسها ما نسبته 4 في المائة فقط، لكن في إطار الخطة الخمسية الحالية (2007 – 2012)، تقوم الهند بإنفاق 7.5 من الناتج الإجمالي على البنى التحتية، فيما تخطط لإنفاق تريليون دولار على هذا النوع من المشاريع ضمن خطتها للفترة من 2012 – 2017، وبذلك تصل النسبة إلى 9 في المائة، وسيسهم هذا الإنفاق الضخم بدفع الناتج المحلي الإجمالي للهند بشكل مباشر وغير مباشر ما من شأنه إحداث ثورة في القطاعات الإنتاجية تنافس تلك التي شهدتها الصين خلال العقدين الأخيرين.
ثانياً : ستستفيد الهند من ميزاتها الديموغرافية في ظل تمتعها بمتوسط عمري للسكان في حدود 25 عاماً مقارنة بالصين التي يبلغ متوسط أعمار سكانها 34.2 عاماً، وبذلك تكون التركيبة السكانية للهند أكثر شباباً في وجه الصين التي يتجه سكانها نحو الشيخوخة بمعدل هو الأسرع عالمياً مما سيساهم في تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني من جانب فيما يدعم نمو الاقتصاد الهندي من جانب آخر.
ثالثاً: لقد شارفت فترة النمو المدفوع بقوة الصادرات على الانتهاء بالنسبة للصين، حيث نمت صادراتها بنسب تفوق 20 في المائة بين 2000 – 2010 أي ضعفي نسبة نمو التجارة العالمية، وبالتالي زادت صادرات الصين من حصتها في التجارة العالمية من 4 في المائة إلى 10 في المائة وهو أعلى من حصة أي بلد آخر، وفي حال استمر هذا التوجه بالوتيرة نفسها خلال العشر سنوات المقبلة، ستستحوذ الصادرات الصينية بحلول 2020 على ما نسبته 25 في المائة من التجارة العالمية، وهو أمر مستحيل الحدوث من الناحية السياسية، فهو بمثابة انتحار اقتصادي للولايات المتحدة وأوروبا اللتين تشكلان أكبر الأسواق المستوردة في العالم، لذا فإن تباطؤ نمو الصادرات الصينية أمر لا مفر منه مما ينقص معدل نموها البالغ 10 في المائة بنسبة 2 في المائة، وخلال تلك الفترة، يتوقع أن تشهد الصادرات الهندية نمواً ملحوظاً نتيجة الطفرة الإنتاجية التي يجري الإعداد لها حالياً إلى جانب الإنفاق المستمر على البنى التحتية.
لكن الطريق أمام نهضة الهند ليست معبدة تماماً، إذ يتطلب الأمر من نخبة البلاد بما فيها الحكومة والإعلام والأكاديميون وأعضاء مؤسسات المجتمع المدني التغلب على مجموعة من التحديات، يأتي في مقدمتها ضرورة أن تقوم الهند بتطوير مستوى التعليم للشريحة الشابة من سكانها، فبالرغم من احتضانها عددا من أفضل كليات إدارة الأعمال والهندسة في العالم، فإن معدل التعليم لدى البالغين لا يزال دون المستوى المطلوب في حدود 63 في المائة، وهنا يقف القطاع الخاص الهندي أمام دور رئيس في ظل انتشار تقنيات الاتصالات والإنترنت في مختلف أرجاء البلاد، إلى جانب توافر الكمبيوترات المحمولة بأسعار زهيدة، مما يقدم فرصاً غير مسبوقة للقطاع الخاص للمساهمة في توفير وسائل التعليم الذاتي للقرى والمناطق النائية.
من جانب آخر، يجب على الهند أن تواجه أزمة الفساد، الذي عادة ما يتسبب في عدم الاستفادة من الموارد وإهدارها، وفي بلد كالهند، يؤدي الفساد إلى استغلال واسع النطاق للفقراء الذين لا قدرة لديهم على تحمل تكاليف الفساد. إن محاربة الفساد ستساهم في الحد من التباين في توزيع الثروات بين مختلف أفراد الشعب وتسريع عملية توليد الدخل للشرائح الفقيرة، وبالتالي المساعدة على بروز شريحة كبير من متوسطي الدخل التي تساهم في استدامة معدلات النمو المرتفعة.
من الضروري أن تعمل الهند على تسريع تطوير البنى التحتية إلى جانب دعم القطاعات الإنتاجية، فالطريق الوحيد لتوفير فرص عمل ذات دخل أفضل للقوة العاملة في الهند التي تقدر بـ 700 مليون عامل تكمن في التحول إلى مركز تصنيع وإنتاج عالمي على غرار ما تشهده الصين اليوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي