مراجعات الحميدي .. بين ذهنية التكفير واستسهال الفتوى
توقف الشيخ عبد العزيز الحميدي أستاذ العقيدة والباحث في الأديان في آخر حلقة من مراجعاته الفكرية، التي بثها التلفزيون السعودي يوم الجمعة الفائت. عند جملة من المسائل بالغة الخطورة، والتي قد تدفع بصاحبها إلى الذهاب بعيدا في الغلو، وما يترتب عليه من تبعات، مقدما تجربته للشباب المسلم للنأي بهم عن المزالق وذهنية التكفير التي قادت البعض إلى الخروج عن الدين القويم، والانصياع لبعض الفتاوى المتطرفة التي يتصدى لها ضعاف الإيمان أو الباحثون عن الشهرة باسم الدين وهو منهم براء.
وأشار الشيخ الحميدي إلى أن أولى هذه المسائل هي مسألة الانغلاق والتحيز لرأي واحد ليس بالضرورة أن يكون الحق إلى جانبه، ووصف تجربته تلك بقوله: ''إنني أغلقت ذهني فوقعت في أخطاء كثيرة، ولم ينفع عمري ولا درجتي العلمية، ولا ما حصلت عليه من شهادات ومستويات معينة من العلم''، وأضاف مخاطبا الشباب المسلم من واقع تجربته ومخرجاتها: ''إن من أخطر الأمور أن تعتقد شيئا ناقصا أو خطأ ثم تبني عليه مواقف قد تؤدي بك إلى أعظم الخطأ وأعظم الهاوية''.
كما أشار إلى باب استسهال الفتوى، وأخذها من غير مصادرها الأصلية ومن غير العلماء الراسخين في العلم.. أو من مجاهل الإنترنت، ومن بعض ضعاف النفوس ممن يفتشون لهم عن موقع ما بدافع الظهور والبروز ولو على ظهر الفتنة، وضخ الريب والشكوك بين الناس، واستثمار حماسة بعض الشبان ممن لم يبلغوا بعد سن النضج؛ لتحويلهم إلى وقود وحطب لهذه الأفكار المضللة، مشيرا إلى أنه لو استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في هذا الطريق الذي أشغله عن دراساته المعمقة في مقارنة الأديان ـــ كما قال.
ومراجعات الشيخ الحميدي التي امتدت على مدى أسابيع، أتت معمقة وحاسمة؛ لأنها جاءت أولا كنتاج تجربة شخصية، استطاع الشيخ أن يراجعها بالاستعانة بالدليل من القرآن والسنة.. ثم لأنها استوعبت حجم تلك المزالق التي أراد أصحابها أن يجرجروها من بطون قصص التاريخ في سياقات قياس تفتقر إلى أبسط درجات الموضوعية لينشئوا عليها واقعا مشابها .. مثلما استدل بفتوى من يكنى بأبي قتادة الذي أعاد شرح فتوى أئمة المالكية فيمن ناصر العبيديين من العلماء.. لإسقاطها على علماء الأمة واتهام هذه الأمة بحكوماتها وعلمائها وأئمتها بالمروق من الإسلام.
لعل تزامن هذه المراجعة مع ما جاء به بيان وزارة الداخلية بالقبض على 19 خلية إرهابية من معتنقي الفكر الضال، ضمت 149 شخصا معظمهم من السعوديين، والمخططات البشعة التي كانت تنوي القيام بها .. يكشف مدى خطورة ما أشار إليه الحميدي في مراجعاته، ويستدعي الكثير من العمل على مختلف الأصعدة لإنقاذ الأمة من هذا المستنقع الذي وفرت له أدوات الاتصال الحديثة المحضن والرحم الأول.
وإذا ما كان قرار خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء قد جاء ليعيد الأمور إلى نصابها بعدما انفلتت أمور الفتوى، وبات الخلط واضحا ما بين الواعظ والإمام والخطيب والمؤهل للإفتاء .. فإن الأمر لا يزال يحتاج إلى الكثير من الجهد لإعادة الهيبة للفتوى، وللعلماء الأجلاء الذين أنيطت بهم مهمة الإفتاء بدءا بسماحة المفتي وأعضاء هيئة كبار العلماء من أصحاب الفضيلة المشهود لهم بالعلم .. استلهاما لعِظَم شأنها وخطورتها حينما تأتي ممن لا يمتلك أدواتها أو ممن يغلق ذهنه عند ما يستحسنه من الآراء على حساب الحق .. وتأسيسا على موقف الإمام مالك - رضي الله عنه - والذي قيل إنه سئل في 40 مسألة فأجاب عن 36 منها بقوله: لا أدري، في حين لا يتوانى البعض للأسف عن الخوض في المدلهمات على غير هدى، مما يفتح أبواب الفتنة ويدخل الأمة في صراع عبثي هي في غنى عنه، وهي تحاول على أيدي المخلصين من قادتها وعلمائها استرداد موقعها الحضاري كأمة سلام تسعى بكل ما أوتيت من قوة لنشر رسالة الإسلام الخالدة بالقول الثابت وبالحسنى.