الأزمة عميقة.. وتصريحات تهدد الثقة بالعملة الأوروبية
في وضع حرج جدا أمام الاتحاد الأوروبي وديون بعض أعضائه يأتي إعلان رئيس الاتحاد ليزيد الموقف تعقيدا، حيث صرح بأن بقاء الاتحاد الأوروبي واليورو مرهون بحل مشكلة الديون التي تعانيها بعض الدول الأعضاء، وفي مقدمتها إيرلندا التي صرح رئيس وزرائها بأنها تستطيع الصمود حتى منتصف عام 2011، ولكن المشكلة أن ترتيبات ميزانية الاتحاد الأوروبي لا تحتمل التأجيل إذ لا بد من الاتفاق على تفاصيلها قبل بداية العام الجديد، ويبدو أن ما صرح به رئيس الاتحاد الأوروبي بمثابة وضع الأمور في مكانها الصحيح، حيث من المتوقع مواجهة أزمات ديون جديدة. والأخطر أو ما يسبب المخاوف أن المستثمرين ليس لديهم الرغبة بتاتا في شراء سندات حكومية لوجود مخاطر عالية تهدد المقدرة على السداد في مواعيده، بل قد تكون إضافة دين إلى ديون سابقة تجعل من تحريك العربة إلى الأمام أمرا مستحيلا.
هذا ما حصل بالفعل مع اليونان التي تتسلم كل شهر دفعة من كل دولة عضو في الاتحاد لمساعدتها على الخروج من الأزمة وإكمال رحلة علاج هيكلها الاقتصادي الذي بات غير قادر على الوقوف بثبات حتى اليوم، وهذا ما دعا وزير المالية النمساوي إلى التهديد بعدم سداد حصة بلاده في برنامج إنقاذ اليونان التي لم تف بتعهداتها وتصلح من أوضاعها الاقتصادية، كما أن تصريح الحكومة الفنلندية يشير إلى أن لديها سياسات محلية تستند إلى معارضة شعبية لاستمرار فكرة الإنقاذ للمدينين ولا يمكنها تجاهل رغبات شعبها الحريص على ثرواته.
يظهر أن الأزمة أعمق من القدرة على تشخيص الموقف بكل دقة، فمثل هذه التصريحات يمكن أن تهدد الثقة بالعملة الأوروبية اليورو، بل تجعلها تشهد اضطرابات مالية كتلك التي أثارتها أزمة اليونان قبل عام. واليوم فإن إعادة قراءة جدوى خطة الإنقاذ على المحك، فالاتحاد الأوروبي ممثلا في المفوضية وكذلك البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي تعتزم زيارة اليونان والوقوف على حقيقة ما يجري غير مكتفية بما يرسل إليها من تقارير دورية، ولعل عبارة أحد الخبراء الأوروبيين في وصف ذلك بأن دقة التشخيص الطبي تقتضي زيارة المريض في منزله وعدم تقييم صحته من خلال سماع صوته هاتفيا تعكس الرغبة في كشف جدوى الإنقاذ.
إن ديون اليونان والبرتغال وإسبانيا وأخيرا إيرلندا تمثل معاناة ربع الاتحاد الأوروبي الذي يتكون من 16 دولة منها المؤهل ليكون عضوا في نادي الأثرياء الأوروبي، ودول تمت استضافتها لتحسن من وضعها الاقتصادي وتدعم السوق الأوروبية التي تحولت إلى اتحاد أوروبي وعملة موحدة وكانت بالفعل جبهة قوية وندا مفاوضا بشراسة حول حقوقه في منظمة التجارة العالمية، حيث انضمت إلى القطب الأمريكي وثالثهما الصيني ولم تنجح باقي الدول التي حاولت تشكيل كتلة عدم انحياز تجاري في تحقيق جبهة واحدة، فهل كان هذا من حسن حظهم؟
إن تجاوز مفهوم الدولة من الناحية الاقتصادية وكسر الحواجز مع الدول الأخرى قد يحقق مكاسب وقتية ولكنه يظهر في كل يوم أن الدولة كيان سياسي لا يصح المخاطرة بمقدراته في شراكات مهما كان نوعها ما دامت تتجاوز فكرة التعاون والتكامل في حدود لا تهدم فكرة الاستقلال الاقتصادي والسيادة المنفردة على العملة الوطنية وما يمكن تقديمه من معونات مالية غير إلزامية. ومن المؤكد أن ما يجري في الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى توقف إجباري لجميع الفرق المشاركة في ميدان الوحدة أو الاتحادات المحتملة لأن الاتحاد يفتح الباب لتلقي مساوئ الشراكة، بل قد يدفع الشريك من ماله الخاص لإنقاذ شريكه لأن خسارته أكبر منه لو تم فض هذه الشراكة أو تعثر مشروعها الربحي.
لقد تساقطت شركات عملاقة، خصوصا في الصناعة المصرفية التي لم تكن تعرف الخسارة من قبل ولحقت بها سلسلة من الإفلاسات التي ميزت عصر تحرير التجارة والاتحاد لتحقيق مكاسب منها وجعلتها تتحول من مصدر للانتعاش إلى مصدر للمعاناة، وهي اليوم ليست معاناة شركات أو مؤسسات مالية فقد تم تجاوز تلك الكوارث وتم حصد خسائرها، لكن الآن هناك معاناة تهز حكومات بدأت في سياق لا يوحي بسيطرتها على مسيرتها المالية وهي تريد الضغط من خلال فرض الضرائب أو تخفيض التزاماتها تجاه أصحاب الحقوق من موظفين وغيرهم لتوفر مبالغ علها تساعد على إقناع شركائها لتقديم الدعم لها، وهي قناعة هشة ربما لا تصمد أمام المزيد من الديون الحكومية التي باتت كالألغام في حقل بلا خريطة للخروج منه بسلام.