فلنجتنب الظن السيئ

ورد لفظ «الظن» في القرآن الكريم على عدة معان، سأقتصر على المعنى الذي جاء في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (الحجرات: 12)، أي اجتنبوا الظن السيئ (ابن كثير)، فلا تظنوا بأهل الخير سوءاً، إن كنتم تعلمون من ظاهر أمورهم الخير، خاصة إن لم يكن هناك سبب حسي يوجب هذا الظن (القرطبي)، والرسول – صلى الله عليه وسلم – نهانا عن الظن، فقال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ..» (مسلم).
فهل الظن السيئ الذي ينتابنا نحو أنفسنا والآخرين صحيح؟ في الغالب الأعم هو ظن غير دقيق؛ لأنه غير حسي وغير ملموس، إذ، قد يتصرف أحدنا تصرفاً لا يقصد به الإساءة، يظنه الآخر إساءة، وقد يتصرف آخر تصرفاً يظنه إساءة للآخر، وهذا الآخر لا يدرك ذلك! فتكون نتيجة هذا الظن: توترا، وشعورا متفاوتا بالإهانة، مما يولد مغالطات في العلاقات الاجتماعية، والعلاقات الأسرية، وتبرّم الناس بعضهم من بعض، فيسيطر الوهم مكان الحقيقة! خاصة، أن منشأ «الظن»، أغلبه مبني على الخبرات التي مرَّ بها الإنسان في ماضي حياته، وظروف البيئة التي عاش فيها، والمعارف التي اكتسبها..
مريض عانى طويلاً من الأرق، وتعثّر في حياته العملية؛ لظنه أنه محط سخرية الآخرين، وبعد عدة جلسات مع الطبيب المختص اكتشف زيف تلك الظنون، وإنه ما كان محط سخرية إلا في نظر ذاته، وأن الناس من حوله لا تحط من قدره كما كان يتوهم.. فأصبح، بعد تلك الجلسات، أكثر واقعية، وتغيرت نظرته للحياة وللآخرين، فاستعاد ثقته بنفسه، واستقام حاله وشفي من أرقه!
زوجة، حباها الله بزوج خلوق، مقتدر ومثقف، أصيبت بضعف عام.. راجعت الأطباء فلم يجدوا سبباً، ثم أصيبت بأمراض جسدية عولجت منها، ولكن، الضعف لازمها.. فراجعت طبيبا نفسيا، وبعد عدة جلسات ذكرت كلاماً فسّر سبب ضعفها! كانت تعاني من شعور بالنقص أرهقها، ناتج عن ظنها بعدم أهليتها لأن تكون زوجة ذلك المثقف لتدني تعليمها، وساعدت تعليقات زوجها على آرائها على ترسيخ تلك الظنون، التي لم يكن يقصد بها التقليل من قيمتها، ولم يكن يأبه لمستوى تعليمها، كانت ظنونا كاذبة، أطلقَ لها العنان ذلك الشعور بالنقص، فنظرت لنفسها نظرة مختلفة عن نظرة زوجها لها، جعلتها حسَّاسة لكل تصرف أو قول يشير إلى قيمتها؛ مما أدى إلى إصابتها بذلك الضعف الجسدي، وبجفاء العلاقة مع زوجها.
وإذا كان للظن حالتان: حالة تُعَرِّف وتُقَوِّي بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، فإن الحالة الثانية - التي نحن بصددها - تمنع أن يقع في النفس شيء من غير دلالة، وهو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يُظَن به ظن السوء» (القرطبي)، وقد نهى الله – سبحانه وتعالى – عباده عن كثرة الظن، كما جاء في الآية المذكورة في مقدمة المقال، وهو: التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس، في غير محله؛ لأن «بعض ذلك يكون إثما محضاً فليُجتنب كثير منه احتياطاً» (ابن كثير)، خاصة، وأن كل منا يندر أن ينفلت من تلك الظنون، فالجميع يتأثر بخبراته السابقة وأحكامه المسبقة وهو ينظر لنفسه وللآخرين، وبالتالي، علينا أن نصحح ظنوننا، من خلال تمتين علاقاتنا وصداقاتنا مع الآخرين، التي تهيئ لنا مناقشة ظنوننا وأحاسيسنا معهم، فنستطيع التغلب على ما هو زائف منها، وأن يدرك، كل واحد منا، أن بعض الأخطاء التي تصدر منه ويشعر أنه فريد بها، هي من طبيعة الناس.. إذ لا وجود للإنسان الكامل الخالي من النقائص، وهذه هي الطبيعة البشرية، ومن يدرك ذلك يسهل عليه أن يرضى عن نفسه، والرضا عن النفس من أهم أسباب الصحة النفسية والجسدية، التي تساعدنا على تجاوز الكثير من الظن السيئ بذواتنا وبالآخرين، وبالتالي تجاوز الكثير من الأمراض النفسية والجسدية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي