المسجد الحرام.. توظيف التقنية في ضبط الزحام
كما يقال عندما يبدع المرء في إنجاز عمل ما إنه ''تفوق على نفسه'' يمكن إطلاق الوصف ذاته على الجهود التي بذلتها المملكة العربية السعودية في إدارة موسم حج هذا العام، وهي شهادة وثقتها كاميرات البث التلفزيوني ووسائل الإعلام الأخرى المحلية والعالمية. ذلك التفوق جسدته محاور عدة كان من أهمها انسيابية الحركة للملايين الثلاثة من الحجيج بين المشاعر المقدسة بيسر وسهولة طوال فترة الموسم المبارك حتى في أوقات الذروة التي لم تكن تخلو في المواسم الماضية من بعض الاختناقات هنا وهناك.
بالطبع فإن كل ما تحقق من نجاح في هذا الموسم وغيره من المواسم يرجع الفضل فيه لله ــ سبحانه وتعالى ــ وما تفضل به من توفيق لما تبذله المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز من جهود لخدمة الحجيج، الحرمين الشريفين والمشاعر. تلك الجهود التي تبذلها حكومة المملكة يشارك فيها آلاف من رجال هذا الوطن في مختلف ميادين الخدمة تحت إشراف عدد كبير من المسؤولين برئاسة الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية ورئيس لجنة الحج العليا. وأحسب أنه ليست هناك حاجة إلى تعداد الجهود التي يبذلها الأمير نايف شخصيا في السهر على راحة وسلامة ضيوف الرحمن؛ إذ بات ذلك أمراً ملموسا ومعلوما لدى الداني والقاصي.
ومما لا شك فيه فإن المشروعات المتواصلة في توسعة الحرمين والمشاعر المقدسة وأحدثها ما تم إنجازه في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود كجسر الجمرات، المسعى، الساحات، الطرق والأنفاق، قطار المشاعر، وغيرها كان لها دور كبير في استيعاب الأعداد غير المسبوقة من الحجيج. غير أن تلك المشروعات، على رغم اتساعها، تظل في النهاية ذات طاقة محدودة مقارنة بالأعداد القادمة لأداء ذلك الركن الخامس من الإسلام ما حتم توظيف حزمة واسعة من التقنيات الحديثة لضبط حركة الحشود. الشاهد هنا أن تنظيم حركة الحجيج بضبط أعدادهم وبرمجة وصولهم إلى مواقع المشاعر المقدسة حقق منافع كثيرة كان أبرزها سلامتهم وراحتهم والأهم من ذلك كله تمكينهم من أداء مناسكهم بيسر وسهولة.
ذلك التوظيف الناجح للتقنيات الحديثة في ضبط حركة الحجيج ليس حدثا جديدا تميز به حج هذا العام بل شاهدناه في المواسم الماضية. إلا أن التطوير المتتابع في تلك التقنيات يدعونا للإشادة بمنهجية ذلك التنظيم، كما يدعونا للتفكير في ملاءمة وضع تنظيم مشابه له، وإن كان باستخدام آليات مختلفة إلى حد ما، لبرمجة الأعداد القادمة (في غير موسم الحج) للمسجد الحرام للصلاة أو العمرة. فلقد بات ضبط الزحام في المسجد الحرام بالوسائل التقليدية أمراً مستعصياً، لا سيما في المواسم، على الرغم من الجهود والإمكانات الكبيرة التي تبذلها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ورجال الأمن، إذ يبلغ الزحام في الكثير من الأحيان حداً لا يجد المصلون حيزاً للركوع والسجود ناهيك عن التدافع هنا وهناك. كما تسد الطرقات والمخارج بالآلاف من البشر ما يعوق التعامل مع أي ظرف طارئ، لا سمح الله، وكذا الحال في الساحات الخارجية وإن كانت بدرجة أقل. أما المشقة التي يعانيها كبار السن والنساء في ذلك الزحام فليس من باب المبالغة إن وصفت بأنها مرهقة.
وكنت قد دعوت في مقال سابق (''الاقتصادية'' في 5/2/1430هـ) إلى تسخير الإمكانات التقنية العالية التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية والخبرة المتراكمة التي اكتسبتها في إدارة مواسم الحج، لتصميم وتنفيذ برامج على مستوى عال من الدقة لتنظيم وبرمجة أعداد الراغبين في الصلاة في المسجد الحرام أو أداء مناسك العمرة لشهور قادمة سواء كانوا من الداخل أو من الخارج في حدود الطاقة التصميمية للمسجد.
هناك نماذج عدة لتلك البرامج إلا أنها في مجملها تعتمد على وسائل إلكترونية كشبكة الإنترنت للتخطيط المسبق لتلك الأعداد بعرض جميع الأيام التي بها سعة أمام الراغبين في القدوم إلى المسجد الحرام كي يختاروا يوماً واحداً لا غير في الشهر الواحد مثلاً كي تتاح الفرصة للآخرين، ومن ثم تسجيل أسمائهم وبياناتهم للحصول على شريحة ممغنطة تثبت التاريخ الذي اختير لإدخالها في البوابات الإلكترونية التي قد تقام في محيط المسجد الحرام ضمن التنظيم المقترح الجديد. تلك الشرائح أو القسائم ستكون متاحة للجمهور للحصول عليها في كل بقعة من الأرض تقريباً عبر شبكة الإنترنت، أو عبر مكاتب البريد ومراكز الشرطة، أو من الأجهزة التي يمكن توزيعها على فروع البنوك، شركات العمرة، الممثليات السعودية في الخارج وغيرها.
من بين المزايا الأخرى للتنظيم المقترح برمجة الاستعدادات اللازمة في المسجد الحرام بشكل دقيق يتناسب مع الأعداد التي تأكد قدومها ما يحقق ترشيداً في استخدام الإمكانات المتاحة، كما يوفر آلية جيدة لمعرفة كل من بداخل المسجد في أي وقت كان فضلاً على أنه سيقلص من المظاهر والتصرفات التي هي ليست من العبادة كالنوم وغيره. لكن الأهم من كل ذلك أن التنظيم المقترح سيكفل للجميع فرصاً متساوية للحصول على مكان في المسجد للصلاة والطواف والسعي بهدوء وطمأنينة دون تدافع أو مشقة والغاية المرجوة لا ينبغي أن تخفى على أحد ألا وهي إعادة السكينة إلى العبادة في بيت الله، ولا أحسب أن هناك حاجة إلى سرد مقاصد أخرى، إذ متى ما شاعت السكينة والطمأنينة في ذلك المكان الطاهر عمرت القلوب بخشية الله.
إن تنظيم وبرمجة أعداد القادمين للمسجد الحرام ربما يشكل رؤية جديدة في آلية التعامل مع مشكلة الزحام في الحرم.