تسعير المشاريع والطفرة (2 من 3)

تحدثنا في مقالة الأسبوع الماضي عن الاستثمار الأمثل للوفورات المالية جراء ارتفاع العائد من مبيعات النفط في الفترة الحالية، كما ناقشنا وبشكل مسهب مدى تحقق عوامل النجاح ومعدل عائد مجز للاستثمار للمشاريع الحالية، التي خُصّص لها جزء كبير من الفائض المالي، وخلصنا إلى غياب التكامل والجاهزية في هذه المشاريع، وتحديدا عدم جاهزية وتكامل عناصر العملية الإنتاجية الأساسية من بنية تحتية وموارد بشرية وقطاع خاص محلي، مع ملاحظ اعتماد تنفيذ المشاريع على العناصر والخبرات الأجنبية في كل مراحل وعمليات المشاريع، كما أشرنا إلى ضعف، إن وجد، التنسيق والتكامل بين الجهات الحكومية في تخطيط وتنفيذ المشاريع، كل فيما يخصه، حيث تعمل كل جهة حكومية بمعزل عن الأخرى ''جزر منعزلة''، إضافة إلى عدم معقولية وعدالة وتوقيت وجدولة تكلفة هذه المشاريع على ميزانية الدولة، سواءً ما يخص التكاليف الرأسمالية أو تكاليف الصيانة والتشغيل أو ارتفاع أسعار الترسية، التي أدت إلى انتشار ما يمكن تسميته ظاهرة ''مشاريع المليارات''.
من العوامل الأخرى الضرورية لنجاح أي مشروع اتباع منهجية التنفيذ على مراحل، وليس تنفيذ جميع أجزاء المشروع مرة واحدة، وهو ما يلاحظ اتباعه في المشاريع الحالية في المملكة، وبتركيز فقط على الحصول على المخصصات المالية وصرفها بشكل سريع، دون النظر مليا في مدى تحقق النتائج المرجوة؛ ما يرفع، ليس فقط، من تكلفة تملك هذه المشاريع على ميزانية الدولة في المستقبل، لكن من تعرض هذه المشاريع للإخفاق والتعثر.
عند تطوير وتخطيط أي مشروع، ينبغي النظر في كيفية الاستفادة من وإدارة وتشغيل وصيانة المشروع بعد اكتماله، قبل البدء في تنفيذ المشروع، بدلا من، فقط، التركيز على التنفيذ وتأجيل التفكير والقلق بما قد يحصل بعد استكمال المشروع. عند التخطيط لأي مشروع، يجب تحديد الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ وتشغيل المشروع، على أن يتم اتباع منهجية التنفيذ على مراحل Phase-Out Implementation، وهذا ما يتم اتباعه في جميع المشاريع الكبيرة، فتوافر ميزانية وسيولة لا يعني بالضرورة أن يتم تنفيذ جميع مراحل المشروع في وقت واحد. فعند إنشاء مطار دولي مثلا، فينبغي البدء بتخطيط وتصميم شامل للمطار وصالاته وخدماته، على أن يتم التنفيذ بشكل تدريجي وعلى مراحل، كأن يتم تنفيذ الصالة الداخلية أولا، وبعد التشغيل لفترة ثلاث سنوات مثلا، وحسب تقدير الطلب، يتم تنفيذ المرحلة الثانية، وهذا يوفر مبالغ كبيرة على الدولة، مبالغ كان يمكن صرفها على مبانٍ وخدمات لا تستخدم لسنوات طويلة، والأمثلة العملية كثيرة. وهذه المنهجية ينبغي تطبيقها على جميع المشاريع، سواءً كانت جامعات أو سكك حديدية وقطارات أو مجمعات سكنية ومكتبية أو مشاريع تطوير التعليم والصحة وغيرها، فمثلا، إنشاء عدد من الجامعات الحكومية في وقت واحد، مع بناء جميع الكليات والخدمات والمستشفيات والمعامل داخل كل جامعة مرة واحدة، يتعارض مع منهجية التنفيذ على مراحل، ويرفع من تكلفة تملك هذه الأصول على الدولة في المستقبل، ويؤدي إلى خسائر مالية على الدولة نتيجة عدم استخدام وتشغيل بعض المعامل والكليات والخدمات لفترة من الزمن؛ لأسباب بسيطة تتمثل في عدم جاهزية الموارد البشرية وعدم وجود طلب أو احتياجات حالية لها.
تعتبر جامعة الملك سعود مثالا عمليا وجيدا لتطبيق منهجية التنفيذ على مراحل، فعند بناء الجامعة قبل ثلاثة عقود، أخذ في الاعتبار عند التخطيط والتصميم، إمكانية التوسع الخلفي داخل كل كلية يتم تنفيذها، وإمكانية التوسع في كليات إضافية على الكليات الحالية، وكذلك التوسع في مبانٍ وعيادات ومعامل وخدمات المستشفى الجامعي، وهو ما يحصل حاليا. فقد شرعت الجامعة في الاستفادة من الوفر والدعم المالي من الدولة، وتوافر مساحات من الأراضي الخام المخصصة للجامعة داخل حرم الجامعة، في بناء كليات إضافية للبنين، وتوسعة المستشفى الجامعي، إضافة إلى مدينة الطالبات الجامعية، خطوة عملية تحسب لإدارات الجامعة الحالية والسابقة في كيفية استثمار وتوجيه الدعم المالي فيما يخدم مستقبل الجامعة والوطن، وتحسب أيضا لوزارة المالية ووزارة التعليم العالي في التخطيط والتنسيق الناجح مع جامعة الملك سعود في تنفيذ مشروع الجامعة على مراحل؛ ما أدى إلى زيادة معدل العائد على الاستثمار. وقد يكون من المناسب من هذا المنطلق وعطفا على تجربة جامعة الملك سعود الرائدة في كيفية تخطيط وتنفيذ الجامعة على مراحل، إعادة النظر في استراتيجية تخطيط وتنفيذ جامعة الأميرة نورة بكل كلياتها وخدماتها، والتوسعات الحالية في جامعة الإمام فيما يخص إنشاء المدينة الجامعية الجديدة للبنات، ويمكن تشكيل فريق عمل بين هذه الجامعات وجامعة الملك سعود، وبالتنسيق مع وزارة التعليم العالي ووزارة المالية لمراجعة الوضع الحالي للمقاعد الجامعية المستقبلية المخصصة للبنات بين هذه الجامعات، والخدمات والمعامل والكليات المنفذة حاليا، مع تحديد إمكانية تأجيل تنفيذ بعض الخدمات والكليات والمعامل إلى مراحل زمنية قادمة.
في المقابل، هناك مشاريع أخفقت في اتباع منهجية التخطيط الاستراتيجي الشامل والتكامل والتنسيق بين الجهات الحكومية والخاصة المعنية، مع عدم اتباع منهجية التنفيذ على مراحل، مكبدة خزانة الوطن خسائر مالية كبيرة، ليس فقط في عدم فاعلية وفائدة هذه المشاريع، لكن في إمكانية تكرار هذه المشاريع، خصوصا في توجه الجهات المسؤولة عن هذه المشاريع في التعامل وإعلان هذه المشاريع بأنها ''مؤقتة''، إعلان يثير تساؤلات حول جدوى اعتماد هذه المشاريع والصرف عليها، وإذا كانت هذه المشاريع تخدم أية أهداف فحتما فإنها لا تخدم مصالح وأهداف الوطن.
وفي ظل الظروف الحالية، لا نجد أمامنا إلا وزارة المالية، وهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن التحكم ومراقبة أسعار المشاريع في الوقت الحالي، للقيام بكل ما يلزم من إجراءات رقابية إضافية لتحديد ماهية المشاريع التي تخدم الوطن على المدى الطويل، ووضع آلية لترشيد مصاريف الدولة وتحديد أولويات الصرف وجدولة الصرف بما يحقق أعلى عائد لاستثمارات الوطن. كما ينبغي، ومع ملاحظة غياب أي جهة تعنى بالإشراف والمراقبة الفنية على جودة وأداء وتكامل وجاهزية المشاريع، النظر في وضع آلية وجهة مستقلة لمتابعة وتقييم أداء وجودة المشاريع بشكل دوري.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي